عائلة “أرْسَلان” المعروفيّة، من أشهر الأُسر الدّرزيّة على مرّ التّاريخ، تعود في جذورها إلى قبائل “تنّوخ” العربيّة، في شبه الجزيرة العربيّة، الّتي ورَد ذِكرها، منذ قديم الزّمان، في النّصوص السّبئيّة والحِمْيَرِيَّة وفي الكتابات الحِسائيّة وفي جغرافيّة بطليموس، في جُملة ما ذُكر من قبائل العرب. أمّا التّسميّة “أرْسَلان” فتُنسب إلى الجدّ الأوّل الأمير أرسلان ابن الأمير مالك بن بركات المُنذريّ اللَّخميّ (727-787 م.)، والمناذرة هُم ملوك الحيرة، ويعود هذا النّسب إلى الملك النّعمان أبي القابوس ابن الملك المنذر بن ماء السّماء. أمّا “أرسلان” في اللّغتين التّركيّة والفارسيّة فتعني الأسد، وقد تلفظ أرْسَلان ورُسْلان.
تقول المصادر التّاريخيّة، وهي روايات يصعب تأكيدها، إنّ أخبار قوّة مرَدَة لبنان ومنْعهم أبناء السّبيل من المرور في الطّرقات المجاورة لبلادهم قد بلغ أبا جعفر المنصور، الخليفة العبّاسيّ الثّاني، وكان في دمشق آنذاك. ولمّا لم يتمكّن من ردِّهم أحد، استمرّوا في غزواتهم واعتداءاتهم، فأوعز الخليفة المنصور للأميرين المنذر وأخيه أرسلان بأن يُقيموا وأبناء عشيرتهم في جبال بيروت الخالية فيقهروا المرَدَة من الجَراجِمَة وقراصِنة الرّوم المُعتدين الّذين كثيرًا ما أقلقوا الدّولة العربيّة ونقضوا طاعتها وأغاروا على سواحل الشّام، لِما رأى ما عند الأميرين من الحماسة والشّجاعة والقوّة، وما كان منهما إلّا أن استجابا للخليفة مُخلصَيْن، وأنعم عليهم المنصور بإقطاعات واسعة في لبنان. ويؤكّد ذلك النّسب وتلك الرّواية صاحب ذخائر لبنان، إبراهيم بِك الأسود؛ إذ يقول: “حضر إلى القاضي محسن بن حسين بن ويد الطّائيّ، متولّي فصل دعاوى المسلمين في مدينة المعرّة، الأمير منذر وأخوه الأمير أرسلان، ولدا الأمير مالك بن بركات المنذريّ، وطلبا منه أن يكتب لهما وفيات آبائهم في رقّ ليحفظاه عندهما خوفًا من حوادث الأيّام وتحفُّظًا من السّهو والنّسيان، لأنّهما قد عزما على الرّحيل إلى جبال بيروت بأمر أمير المؤمنين المنصور”.[1] أمّا هؤلاء المرَدَة فيؤكّد كمال الصّليبيّ أنّهم الجَراجِمة أنفسهم، فيقول: “قومٌ من النّصارى عرفهم العرب بِاسم (الجراجمة) نسبةً إلى قاعدتهم في بلدة جَرْجومة… ويبدو أنّ هؤلاء الجراجمة أو المردة كانوا في الأصل عشائر من برّ الأناضول أو ما يليه شرقًا من بلاد آسيا الصّغرى، جاء بهم الرّوم إلى جبل اللّكام في زمن متأخّر ووطّنوهم هناك كرديف عسكريّ للاستعانة بهم في حروبهم ضدّ الفرس أوّل الأمر، ثمّ ضدّ المسلمين، وقد استمرّوا مقيمين في تلك المنطقة بعد الفتح الإسلاميّ للشّام، وظلّوا في الوقت ذاته على صلة عسكريّة بالرّوم بعد جلائهم عن البلاد. وتفيد المصادر الإسلاميّة (البلاذريّ) وتواريخ الرّوم، بأنّ الجراجمة- أو المردة – كانوا يخرجون من جبل اللّكام إلى الشّام فينضمّ إليهم الكثيرون من أبناء البلاد من الأنباط والأسرى واللّصوص ويُغيرون معهم على بلاد المسلمين، وفي عام 708 م. تمكّن الوليد بن عبد الملك منهم وخرّب مدينتهم جرجومة ووزّعهم على مناطق مختلفة شمال الشّام، ولم يعُد لهم بعد ذلك شأن يُذكر”.[2]
في البداية نهض الأمير أرسلان بسوابق العشيرة وارتحل إلى وادي التّيم ونزل في “حِصن أبي الجيش”، حيث لبث ينتظر قدوم أخيه المنذر ببقيّة العرب، ثمّ وصل المنذر عام 759 م. (142 هـ.) برفقة البقيّة ونزلوا في المغيثة، قرب منطقة ظهر البيدر، وتفرّقوا جميعهم في البلاد وتوطّنوا في مناطق عديدة، منها: سنّ الفيل، وباطن بيروت والشّويفات وخلدة ووداي التّيم وجبل لبنان، وبقيّة مدن السّاحل البيروتيّ واللّبنانيّ والشّاميّ. وبعد مدّة نزح قسم منهم إلى عْبيه، وهُم آل أمين الدّين، وقسم آخر استقرّ في قرية كفر متّى، وهؤلاء هُم آل ناصر الدّين، والبعض الآخر وهُم بنو القاضي استوطنوا قرية بَيْصور، قضاء عاليه، ولم يزالوا فيها حتّى يومنا هذا.
كان للجدّ الأوّل، الأمير أرسلان بن مالك بن بركات المنذريّ، سبعة أبناء: مسعود، مالك، عمرو، محمود، هُمام، إسحق وعون. ويصف صاحب أخبار الأعيان في جبل لبنان الأميرَ أرسلان فيقول: “وكان طويلًا، عريض المنكبين، أسمر، حسن الطّلعة، مهيبًا، شجاعًا، فارسًا مغوارًا، كريمًا، محتشمًا، فصيحًا، حليمًا، حزومًا، صادقًا، شديد البأس، عليّ الهمّة، جرى له وقائع عديدة مع المرَدَة حتّى بلغ شهرة عظيمة ومدحه الشّعراء”.[3]
جدود بيت أرسلان أسهموا في فتوحات مصر وبلاد الشّام والعراق والمغرب العربيّ والأندلس؛ إذ اشتركوا في الفتح الإسلاميّ في سورية في عدّة معارك، منها: أجنادين، اليرموك، قنِّسرين، مرج الدّيباج ونهر الزّاب. وفي أواخر الخلافة العبّاسيّة انقسم الأرسلانيّون على أنفسهم وتفرّقت كلمتهم، فانحاز البعض منهم إلى المِرداسيّين (نسبةً إلى حاكم حلب صالح بن مرداس وهو “أسد الدّولة”) أو السّلاجقة من حُكّام بعضٍ من مناطق سورية، وانحاز آخرون إلى الفاطميّين حُكّام مصر وجنوب بلاد الشّام. وجاء الصّليبيّون واستولوا على مدن السّاحل فدارت بينهم والأرسلانيّين معارك عديدة، وضُيّق عليهم الخناق وقد دافعوا عن كيان البلاد؛ مثلما فعلوا في فتح مدينة بيروت على يد بلدوين، ملك الصّليبيّين، وفي واقعة رأس التّينة عند نهر الغدير، وقد أبلوا بلاءً حسنًا في حرب المغول، ونالوا رضى الملك المظفّر قُطُز، سلطان المماليك، كما اشتركوا في حروب الدّولة العثمانيّة كفتح قبرص. وفي زمن العثمانيّين اتّسعت ولاية الأرسلانيّين حتّى شملت قسمًا كبيرًا من أرض لبنان، غير أنّ تنازعهم على السُّلطة كان قد أضعفهم ومكّن المعنيّين من إقامة دولتهم الّتي امتدّت إلى لبنان وإلى أجزاء كبيرة من سورية، ودارت بين الفريقين معارك كثيرة.
أمّا الأمراء الأرسلانيّون المعروفون في حاضرنا فيعودون في نسبهم إلى الأمير فخر الدّين أرسلان بن حيدر (توفّي 1780م.)، وقد أخرجت هذه الأسرة عددًا من رجال العلم والسّياسة والحُكّام والشّخصيّات المرموقة الّتي يعبق بها التّاريخ، أمثال: الأمير مسعود بن أرسلان بن مالك (762-837 م.) ونجله الأمير هاني بن مسعود الأرسلانيّ، الأمير النّعمان بن عامر بن مسعود (842-837 م.) وسيف الدّولة منذر بن النّعمان المتوطّن في الشّويفات منذ عام (970 م.). ومن مشاهير الأُسرة الأرسلانيّة نذكر: شجاع الدّولة أبو الغارات عمر أرسلان (1026-1088 م.) ونجله أمير بيروت عضد الدّولة الأرسلانيّ (توفّي 1110 م.) والأمير زين الدّين أرسلان (توفّي 1295 م.) الّذي اشترك في معركة عين جالوت ضدّ المغول التّتر عام 1260 م.، والأمير جمال الدّين أرسلان (توفّي 1585 م.) الّذي اشترك في معركة مرج دابق إلى جانب العثمانيّين، والأمير أحمد عبّاس أرسلان، رئيس ديوان شورى الدّروز، والأمير حيدر أرسلان، نائبه، وعبّاس بن فخر الدّين (توفّي 1809 م.) وزوجته السّتّ حبوس بنت الأمير بشير بن محمّد أرسلان (1768-1826 م.)، والأمير مصطفى أرسلان (1848-1914 م.)، قائمقام الشّوف، ونجله الأمير أمين مصطفى أرسلان (1848-1914 م.)، نائب في مجلس المبعوثان العثمانيّ، والأمير توفيق بن مجيد أرسلان (1871-1931 م.)، قائمقام الشّوف، الأمير عادل أرسلان، الشّاعر والمجاهد الملقّب بأمير السّيف والقلم، والأمير شكيب أرسلان، كاتب الشّرق الأكبر والمُفكّر الملقّب بأمير البيان، والشّاعر الأمير نسيب أرسلان، وثلاثتهم أشقّاء، والأمير توفيق بن مجيد أرسلان (1871-1931 م.) وشقيقه الأمير فؤاد مجيد أرسلان (1874-1930 م.) ونجله الأمير محمّد توفيق أرسلان (1908-1983 م.)، أحد رجالات الاستقلال البارزين، وابنه الأمير طلال أرسلان ونجله المرحوم فيصل أرسلان.
أمّا الزّعامة الأرسلانيّة فبدأ نجمها يخبو بعد بزوغ “آل جنبلاط”؛ إذ كان الأمير مجيد أرسلان في أوج قوّته بصفته زعيمًا للدّروز في لبنان، حين برز الشّابّ كمال جنبلاط وكان زعيمًا للحزب الجنبلاطيّ في المختارة، وقد عُرف بألمعيّته، وهكذا سرعان ما تميّز كمال في السّاحة السّياسيّة اللّبنانيّة، وأصبح ركنًا من أركان السّياسة فيه.
________________________________________
[1] إبراهيم الأسود، ذخائر لبنان (بيروت: د. ن.، 1970)، ص. 164.
[2] كمال الصّليبيّ، تاريخ لبنان (بيروت: دار النّهار للنّشر، 1991).
[3] طنّوس الشّدياق، أخبار الأعيان في جبل لبنان (د. م.: دار نظير عبّود، 1997)، ج. 2، ص. 347.
***
للاستزادة والتّوسُّع:
- أرسلان، شكيب. السّجّل الأرسلانيّ النّسب. د. م.: الدّار التّقدّميّة، د. ت.، ص. 6-9.
- الأسود، إبراهيم. ذخائر لبنان. بيروت: د. ن.، 1970، ص. 164.
- حسين، محمّد كامل. طائفة الدّروز؛ تاريخها وعقائدها. القاهرة: دار المعارف بمصر، 1962، ص. 27-30.
- زهر الدّين، صالح. تاريخ المسلمين الموحّدين الدّروز. بيروت: المركز العربيّ للأبحاث والتّوثيق، 2007، ص. 95.
- الشّدياق، طنّوس. أخبار الأعيان في جبل لبنان. د. م.: دار نظير عبّود، 1997، ج. 1، ص. 147؛ ج. 2، ص. 347.
- خليل الباشا، محمّد، “أرسلان، آل”، معجم أعلام الدّروز، محمّد خليل الباشا (تحرير)، ج. 1 (1999)، ص. 112-115.
- أبو جوهر، محمّد أمين. الدّروز بين التّوحيد والعرفان. بيروت: دار التّكوين، 2008، ص. 13-14.
- الصّغيّر، سعيد. بنو معروف الدّروز في التّاريخ. بيروت: مكتبة الإتقان، 1979، ص. 7-10.
- الصّليبيّ، كمال. تاريخ لبنان. بيروت: دار النّهار للنّشر، 1991.
- فرّو، قاسم رجا. الدّروز، شهادات أعلام ووثائق. عسفيا: الوادي، 1996، ص. 31-36.
- ناطور، سميح. “أرسلان، آل”. موسوعة التّوحيد الدّرزيّة. سميح ناطور (تحرير). ج. 1 (2011)، ص. 137.