مجلّة نهج الميثاق؛ إصدار مركز التّراث الدّرزيّ في إسرائيل
العدد الأوّل | كانون ثانٍ 2020
كاتب المقالة: د. شكيب صالح
عندما أعلن المقتنى بهاءالدين (ع) إغلاق دعوة التوحيد عام 1043 وغاب كبار الدعاة، كان عدد كبير من المؤمنين بالدعوة قد استقر في بلدان الشرق الأوسط القريبة، وخاصة في سوريا، لبنان وفلسطين، وهم الذين أُطلق عليهم اسم الدروز أو الموحدون. وهم ما زالوا يسكنون في هذه البقاع منذ الدعوة حتى اليوم. لكن توجد في العالم مجموعات وقبائل، تقبلت دعوة التوحيد، وانقطع الاتصال بينها وبين الموحدين في الشرق، إلا أنها ظلّت متمسكة بدينها تحت أسماء أخرى من الصعب معرفتها وتمييزها. وتظهر بين الفينة والأخرى بين الدروز تخمينان أو افتراضات تشير إلى كون هذه المجموعة أو تلك تابعة لدين التوحيد، ويعتمد هذا الاعتقاد على رسائل الدعوة التوحيدية والأعراف والاعتقادات الشعبية الدارجة بينهم. ويُعتقد أن ذلك يمنحهم الثقة بالنفس والقوة أنهم ليسوا وحيدين في العالم، وهذا يساعدهم في التخلص من الانقباض والضيق الذي يصيبهم لكونهم أقلية وأحيانا أقلية مطاردة.
ففي حينه وُجّهت رسائل الدعوة إلى كل المناطق المأهولة في العالم خارج الشرق الأوسط، وذُكرت أسماء وجهاء ومشايخ وقبائل، لكن لسنا متأكدين أن هؤلاء تقبّلوا الدعوة. وجاءت بعد ذلك المرحلة التي استعمل فيها الدروز مبدأ التقية، مما جعل عملية التأكد من وجود مواطنين موحّدين حقيقيين قضية صعبة. وقد تمّ الاطّلاع على النسخ الأصلية في رسائل الدعوة، التي دُوِّنت في مصر في النصف الأول من القرن الحادي عشر، بعد 400 سنة فقط، ولسنا متأكّدين أن جميع الرسائل معروفة. وبيدنا اليوم ستة كُتب، والاعتقاد الشعبي السائد لدى الموحدين، هو أنه يوجد 22 كتابا يضمّون رسائل الدعوة. وفي السبعينات من القرن العشرين، احضر المعلم كمال جنبلاط كتابيْن من الهند، نُشرا في القرى الدرزية، وكان الاعتقاد السائد أنهما من بين الكتب المفقودة الاثنين والعشرين، لكن نظرة سريعة للكتابين، تُظهر أنهما يختلفان في الأسلوب وفي الفحوى عن الكتب الأخرى المعروفة.
ونفهم من رسائل الحكمة، أن دعوة التوحيد تقبّلتها أوساط مختلفة من كافة طبقات الشعب، بينها الفلاحون البسطاء، الأمراء ورؤساء القبائل، وفي البداية كان عدد الفلاحين البسطاء كبيرا، وقد انبهروا من المبادئ والأسس الاجتماعية التي ضمّها دين التوحيد، لكن المطاردة ضدّهم كانت قوية، ولم يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم. فقلّ عددهم مع الوقت، وشاعت بشكل مكثف دعوة التوحيد في مدينة القاهرة في البداية، لكنها بدأت تقلّ بعد غياب الحاكم بأمر الله، حتى اختفت تماما مع الوقت في القاهرة. وفي الصعيد واجهت الدعوة صعوبات كثيرة، وتمّ تقبّلها في مناطق قليلة، وقد واجه الدعاة مشاكل كثيرة منذ البداية. وجدير بالذكر، أن جميع الدعاة بدأوا نشاطهم من مدينة القاهرة، لكن غالبيتهم لم يكونوا مصريين، كما أن الدولة الفاطمية الشيعية استقرّت وكبرت في مصر، إلا أن غالبية السكان كانوا وظلوا سُنيين. وفي الجزيرة العربية وخاصة في منطقة الإحساء، نشط عدد كبير من الدعاة، وتمّ تقبّل الدعوة، لكن عدد المؤمنين نقص وقلّ مع الوقت واندمج السكان بين المواطنين الشيعة والسُّنة، مثلما حدث قبل ذلك مع القرامطة القريبين للموحدين الدروز واعتقاداتهم. وقد كان توافق بين القرامطة والموحدين طالما بقي القرامطة في نطاق الجزيرة العربية، ولكن وعندما بدأوا بالتوسع تحو المناطق السورية وأصبحوا في موقع يهدد الدولة الفاطمية وقع صدام بين الطرفيْن.
جامع الحاكم بأمر الله في القاهرة
وتذكر الرسائل الأمير راجبال كأحد كبار من تقبّل الدعوة في الهند وهناك تشابه كبير بين المعتقدات التوحيدية والمعتقدات لدى بعض الطوائف الهندية مثل البهرة وغيرها. لكن لا يوجد أي إثبات عملي حتى اليوم لوجود موحدين دروز في الهند.
الدروز الموحدون الوحيدون الذين ظلوا واستمروا بهويتهم هذه عاشوا في سوريا، لبنان وفلسطين. وفي لبنان تواجد وما زال أكبر مركز روحاني للدروز وهو خلوات البياضة جنوبي مدينة حاصبيا، حيث يقصد المريدون وطلاب العلم والمعرفة للتعمق والتبحّر وحفظ أصول الدين فيها. وقد شاع خطأ أن نشتكين الدرزي هو الذي بثّ الدعوة في منطقة حاصبيا. لكن لا يوجد إثبات بذلك وربما كان خطأ المؤرخين بهذا الشأن نابع من أنه عاش ونشط في منطقة حاصبيا ووادي التيم، قائد موحد درزي هو نشتكين الدزبري، وقد حارب الذين تمردوا ضد الحكم الفاطمي، وفي مقدمتهم صالح بن مرداس، أحد أكبر ألدّ أعداء الموحدين الدروز. وقد تم توجيه رسائل متعددة من الدعاة في مصر إلى منطقة وادي التيم التي عاش فيها عدد كبير من طوائف الشيعة والعلويين الذين قاوموا دعوة التوحيد ونكّلوا بها وقتلوا عددا من الموحّدين.
وقد حظي مشايخ وادي التيم بمكانة مرموقة في الطائفة الدرزية منذ تأسيسها، وأطلق عليهم لقب آل سليمان، وبرز من بينهم في الفترة الأولى، الشيخ أبو ماضي وافد الطاهر من قرية عين حرشا بجانب راشيا، الشيخ أبو الخير سلامة بن جندل من قرية بكيفا، الذي كان كبير الموحّدين، وأحد البارزين في مشايخ المنطقة، واستمرّ بعده أبناء عائلته في قيادة الموحدين الدروز في وادي التيم. والشيخ أبو المعالي من قرية عيتات، وهو أحد أفراد عائلة سباط التي أنجبت أحد كبار المؤرّخين في الطائفة الدرزية، ابن سباط.
وقد قام دروز وادي التيم بالتعاون مع العلويين والشيعة المحليين، عام 1128بصراع مرير لإيقاف بأس وقوة الإسماعيلية النزاريين (الحشاشين) من قلعة البانياس. فقد قام بهرام زعيم الإسماعيلية، واعتقل بخدعة برق بن جندل، أحد زعماء الدروز في وادي التيم، وقام فور ذلك بقيادة الجيوش لاحتلال الوادي فجابه معارضة شديدة من قِبل الضحّاك، شقيق برق وتمّ التغلب عليه وقتله، وقد أرسلت جثته إلى الخليفة الفاطمي في القاهرة.
وجاء في المرتبة الثانية بعد آل سليمان من ناحية المكانة في الطائفة الدرزية آل تراب. هؤلاء سكان القرى التوحيدية في الجليل، وقد ورد ذكرهم في رسائل الدعوة لكن ليس بأسمائهم وإنما بكناهم، وبرز بينهم الشيخ أبو السرايا غنايم من قرية يركا، والشيخ محمد من قرية الكويكات، والشيخ أبو عروس من قرية جث، والشيخ عبد الله من قرية ميماس بجانب أبو سنان، والشيخ عبد الله من قرية إكليل بجانب يركا، والشيخ أبو محمد من قرية الحنبلية بجانب جث، والشيخ أبو اللقا ثابت من قرية السافرية (صفورية)، والقريتان الأخيرتان تقعان في منطقة كفر كنا غربا، غير أنه كانت مبنية في المنطقة قرى أخرى تقبّلت الدعوة لكن أحدا لم يذكرها.
ضريح الشيخ أبو عروس من قرية جث
وجاء في المرتبة الثالثة من ناحية المركز الديني، مشايخ آل عبد الله، وهم فرع من التنوخيين. وقد سكن هؤلاء في قرية عين دار فيل بجانب بيروت، وبرز من بينهم، الشيخ رجا بن يونس، الشيخ إبراهيم ابن محمد، والشيخ حسين بن عبد الرحمن. وينتمي إلى نفس الطبقة مشايخ منطقة دمشق، الذين سكنوا المدن والقرى القريبة منها، وقد أُطلق عليهم لقب شيوخ البستان، وقد اكتسبت كلمة بستان صفة بلاغية خاصة، لتشهد على أهمية المشايخ. فالبستان هو دين التوحيد. والأشجار في البستان هي كناية عن مشايخ التوحيد، زعماء الطائفة في المنطقة، وفي مقدمة هؤلاء المشايخ، كان الشيخ فخر الدولة حمزة ابن ابي يعلى زعيم الموحدين في المكان، وهو الرسول الذي حمل الرسائل من مولانا بهاء الدين في مصر إلى قيادة الدروز في سوريا، وكان من سكّان قرية المزة، ومسئولا عن الجامع الأموي. وكذلك الشيخ نصر بن فتوح أحد سكان قرية الميدانية وزعيم الموحدين في سوريا بعد التخلص من سكيْن وكذلك الشيخ حسن المحاملي، الذي كان قبل ذلك من دعاة المبدأ الشافعي الإسلامي.
وفي لبنان عاش فرع آخر من التنوخيين، وكان هذا يشكّل القوى العسكرية للموحّدين، وكان له دور كبير في ترسيخ ونشر وتثبيت دعوة التوحيد. وكان هؤلاء من الأمراء المعروفين والمعتبرين، وكان على رأسهم الأمير أبو الفضائل عبد الخالق بن محمد، الأمير حسن بن مصباح والأمير أبو إسحاق بن عبد الله وكانوا جميعهم من سكان قرية جمهور وعاش إلى جانبهم الأمير أبو الفوارس معضاد من قرية فلجين وقائد الحركة التوحيدية في منطقة الجبل. وعاش كذلك الشيخ أبو الحسن وكذلك الشيخ أبو وهبه بن منصور من قرية شمليخ، وهو صهر المقتنى بهاء الدين عليه السلام، والأمير أبو الحسن، والأمير أبو العز، وهما من أقرباء مولانا بهاء الدين عليه السلام وهما من قرية سلوان، والأميران هما أجداد الأمراء المعروفين من عائلة أرسلان في لبنان، الذين أسسوا مع الإمارة البحترية إمارة الدروز الأولى غربي جبل لبنان وهكذا وضعوا الأسس لتنظيم الطائفة وتكتّلها وانطلاقها لحكم مناطق في لبنان بعد الدعوة.
تقبّل دين التوحيد عدد من القبائل العربية في الشام، ومن بينهم قبيلة بني كلب التي كان زعيمها سنان بن عليان، والذي احتل عام 1026 مدينة دمشق، وبعد وفاته عام 1030 تسلّم القيادة مكانه ابن أخيه الأمير رافع بن ابي الليل. وقد دعم الأمير رافع القائد التوحيدي الكبير الفاطمي، أنوشتكين الدزبري وكان ساعده الأيمن في معركة الأقحوانة (31 أيار 1029) التي تقع جنوبي طبريا في موقع الأقحوانة حيث يخرج النهر ليستمر بجريانه نحو البحر الميت، وذلك ليس ببعيد عن مقام النبي شعيب عليه السلام. وقد دحروا بانتصارهم في هذه المعركة صالح بن مرداس، وكان أول من بدأ بمطاردة واضطهاد الموحدين الدروز. وقد قُتل في هذه الأحداث في منطقة أنطاكيا أكثر من 10000 شخص من قِبل صالح بن مرداس وحلفائه البيزنطيين. يؤمن الدروز أن الدِزبري هو أحد الموحدين، لكن أحدا لم يعثر على وثائق رسمية واضحة بهذا الشأن. وهناك اتفاق شامل بين الدروز أن الأمير انوشتكين الدزبري، هو أحد الموحدين وقد تزوج الدزبري من ابنة الأمير رافع أبي الليل، لكن القائدين رافع والدزبري تخاصما فيما بعد، فترك الأمير رافع الإمبراطورية الفاطمية وانتقلوا على رأس حوالي 20 ألف مقاتل من مؤيديه للسكن في أنطاكيا، التي كانت تحت السيادة البيزنطية في ذلك الوقت.
وكانت هناك قبائل إضافية في سوريا تقبلت الدعوة الدرزية بواسطة زعمائها، ومنهم جابر وزماخ ابنا مفرج ابن دغفل من آل جراح، وكانوا حكاما في مدينة الرملة، وقد أرسل المقتنى بهاء الدين (ع) رسالة خاصة إلى رؤساء هذه القبائل، حيّاهم فيها، وشجّعهم وذكر أسماء رؤساء قبائل أخرى مثل جامع بن زيدا، دفاع بن نبهان، عميرة بن جابر، شبيب بن وثاب وغيرهم. وكانت منطقة أنطاكيا شمالي سوريا من المناطق الأولى التي تقبلت الدعوة في بداية عهدها، وأصبحت مع الوقت مركزا هاما لنشرها، حيث تركّز هناك مؤمنون كثيرون، وحظي المكان في المصادر التوحيدية باللقب” مصدر كنز الجواهر والأحجار الكريمة”، وكانت المدينة وضواحيها منطقة حدودية تنقّلت من حين لآخر، بين الحكم الإسلامي وبين الحكم البيزنطي، لكن سرعان ما اضطر الموحدون الدروز هناك إلى ترك المنطقة، بسبب مطاردات صالح بن مرداس، حاكم حلب والبيزنطيين وبنفس الوقت استقر عدد كبير من الموحدين في جبل السماق قرب حلب، وتوجد عدة رسائل موجّهة للدروز في هذه المنطقة لكنها بدون أسماء ومن المعتقد أن عدد الدروز في هذه المناطق كان كبيرا جدا وقد عاشوا في قرى كانت أهمها وأكبرها قرية معرة النعمان والتي يسميها الدروز معرة الإخوان. وفي شهري آذار نيسان عام 1032 تمرّد الموحدون في هذه المناطق بسبب الضغط الذي مورس ضدهم فهدموا المساجد في قراهم وظلموا المسلمين وحصلوا على قوتهم بقوة الذراع وفي تلك الفترة كانت منطقة حلب وأنطاكيا تحت حكم البيزنطيين مما أعطى الأمل للدروز أن يحاولوا التمرد والحصول على استقلال ذاتي لكن الدولة البيزنطية وجّهت جيشا كبيرا إلى المنطقة وقبضت على زعماء التمرد وأعدمتهم. وقد لجأ عدد كبير من الموحدين إلى المغر والكهوف هاربين من القتل والتشريد حتى تمكنوا من الهروب أو قُتلوا هكذا فشلت أول محاولة للدروز للحصول على حكم ذاتي في منطقة ما وقد كانت المطاردة شديدة والقتل فتاكا واستمر سنوات طويلة ولهذا السبب اضطر الموحدون الدروز إلى إخفاء دينهم وانتهجوا نظام التقية وظهروا أمام الآخرين وكأنهم مسلمين سنة مثل باقي السكان في الدولة. ومع كل هذا ظلوا في داخلهم وبينهم وبين أنفسهم متمسّكين بدين الوحيد، وحاولوا دائما أن يقووا أواصر القوة فيما بينهم، والمحافظة على بقائهم في معاقلهم. وقد ظلت هذه الخصال ملاصقة لهم زمنا طويلا. وليس من المستبعد ان تكون فئات لا بأس بها مما تقبل الدعوة قد تركت دين التوحيد وارتدت وعادت للإسلام.
أما الذين استطاعوا التمسك بدين التوحد والبقاء في قراهم وبيوتهم فهم سكان الجليل، دمشق، حلب، وادي التيم وجبل لبنان. ومع الوقت قلّ عدد الدروز في منطقة دمشق وحلب وربما حصل نفس الشيء مع الدروز في الجليل. وربما بشيء أقل مع دروز وادي التيم. أما دروز جبل لبنان فقد كانوا اقوى التجمعات الدرزية من الناحية العسكرية لكونهم في الأصل قبائل عربية محاربة واستطاعوا أن يقيموا في لبنان أنظمة حكومية شبه مستقلة خاصة بالدروز.