السّتّ إم عليّ فاخرة البعيني

السّتّ إم عليّ فاخرة البعيني

السّيّدة أمّ عليّ فاخرة البعيني (1764-1849 م.)، من أبرز النّساء الزّاهدات في تاريخ طائفة الموحّدين الدّروز، عُرفت بورعها وتقواها وحكمتها. وُلدت في مزرعة الشّوف، لبنان، في كنف عائلة موحِّدة، كريمة ونبيلة. كان والدها، الشّيخ المرحوم أبو عليّ سليمان البعينيّ، شيخ الصُّلح في بلدته، مشهودًا برجاحة عقله وهيبته، واشتهرت والدتها، رحمها الله، بتقواها وكرمها وحُسن ضيافتها، وحرصت على تنشئة أبنائها على القيم الدّينيّة والإنسانيّة السّامية.

تميّزت السّتّ فاخرة بحضورها المؤثّر في عصرها، فحظيت بتقدير رجال الدّين والسّياسة، على حدّ سواء، ومن بينهم الشّيخ بشير جنبلاط ونجله، سعيد بك، اللّذان كانا يلجآن إلى استشارتها لرجاحة عقلها وبُعد نظرها.[1] كما جمعتها علاقة احترام متبادل مع الشّيخ أبي محمّد حسين ماضي، شيخ عقل الطّائفة حينها؛ إذ برزت بوصفها مصدر رأي ومشورة في القضايا الهامّة.

وحسبما تناقل المشايخ الثّقات الأعيان، منذ القِدم حتّى يومنا هذا، كان الإجماع قائمًا على أنّ السّتّ فاخرة البعيني تُعدّ سيّدة سيّدات عصرها، ولم يظهر في النّواحي المحيطة بها منذ “الدّور الجديد السّعيد”[2] سيّدة تضاهيها في مكانتها وفضلها. قال عنها المرحوم الشّيخ أبو زين الدّين حسن العقيليّ: “كانت السّتّ أمّ عليّ فاخرة رحمها الله تعالى أفضل نساء عصرها، وكان أمرها يمشي في البلاد كالشّيوخ الكبار، وما كان أحد في وقتها يتقدّم عليها”.[3] لقد تميّزت بمنزلة رفيعة جعلتها تُعامل معاملة استثنائيّة؛ إذ ذُكر عنها، بما يُشابه ما قيل عن السّيّدة سارة، رضي الله عنها، أنّها لم تكن تُحجَب كالرّجال.[4] وقد منحها الله تعالى هذه المنزلة السّامية والرّتبة العالية، فكان اسمها “فاخِرَة” انعكاسًا صادقًا لمعاني الشّرف والرِّفعة الّتي حملتها طيلة حياتها.

انفردت السّتّ فاخرة بقدرات كثيرة جمعت بين التّميّز الدّينيّ والحكمة الاجتماعيّة، فغدت متفوّقة في مكانتها على الكثير من شخصيّات عصرها. وكما أسلفنا، امتازت برأيها السّديد الّذي كان محلّ احترام في قضايا الدّين والطّائفة، إضافةً إلى دورها الفعّال في تحقيق الخير والإصلاح. ومن أبرز المواقف الّتي أظهرت فيها حكمتها تدخُّلها لإنهاء نزاع اشتعل بين أهالي مجدل شمس وبقعاثا، في الجولان، بشأن مطحنة ماء، وهو نزاع كان يهدّد بالتّصعيد. بادرت السّتّ فاخرة فبعثت رسائل إلى مشايخ البيّاضة وجبل الدّروز تحثّهم فيها على التّدخّل، وأوكلت سعاة الخير لتنفيذ مساعيها، فأثمر سعيها وتحقّق الصّلح وأُعيد الوئام بين الأطراف.

وفي موقف آخر يُظهر حكمتها وقوّة تأثيرها، كان للسّتّ فاخرة دَور محوريّ في تعيين الشّيخ أبي حسين شبلي أبي المنى شيخ عقل للطّائفة. عُرف الشّيخ أبو حسين بشخصيّته البارزة وحكمته النّافذة، ما جعله محطّ اتّفاق السّادة الأعيان من رجال الدّين والدّنيا وأمراء البلاد ليشغل هذا المنصب الرّفيع، نظرًا لما تحلّى به من خصال حميدة وأفعال مشهودة. ولمّا أُبلغ الشّيخ أبو حسين بهذا القرار، أبدى تردّده وحاول الاعتذار عن تولّي المهمّة؛ إذ رأى نفسه غير مؤهّل لها. فتدخّلت السّتّ فاخرة بأسلوبها الحازم وكلماتها المؤثّرة، وخاطبته بصراحة وشجاعة، قائلة: “نحن شايفينك بتليق وإذا كان بينك وبين خالقك شي صلّحه”. كانت كلماتها دافعًا قويًّا حفّزه على قبول المسؤوليّة بثقة وإيمان، ليصبح واحدًا من أعظم مشايخ عصره في الشّؤون الدّينيّة والدّنيويّة. هذا الموقف يجسّد حكمة السّتّ فاخرة وقدرتها على التّأثير في قرارات مصيريّة تخدم الطّائفة ومجتمعها.

وفي لفتة تعبّر عن وفائها وتقديرها للشّجاعة والتّفاني، أهدت السّتّ أم عليّ فاخرة خِتمة ثمينة إلى المرحوم الشّيخ أبي حسين عليّ شقير، من بلدة عيحا. حملت هذه الختمة قيمة معنويّة ومادّيّة عظيمة، وقد خُطّت بيد الشّيخ المرحوم عليّ ضماد، وامتازت بجمال الخطّ ودقّته. قدّمت السّتّ فاخرة هذه الختمة تعبيرًا عن تقديرها لمواقف الشّيخ أبي حسين عليّ شقير البطوليّة في الدّفاع عن كرامة الطّائفة والحفاظ على مصيرها، خلال حرب إبراهيم باشا المصريّ، وهي الحرب الّتي قادها المرحوم الشّيخ أبو حسين إبراهيم الهجريّ، رضي الله عنه. ظلّت هذه الختمة محفوظة في مزار الشّيخ أبي حسين عليّ شقير، وهي، إلى يومنا هذا، رمز للتّكريم والوفاء، يُحتفى بها بين مشايخ آل شقير الكرام.

واصلت السّيّدة أمّ عليّ فاخرة مسيرتها في التّرقّي الرّوحانيّ والسّعي نحو مراتب المعرفة الإلهيّة، حتّى أزفّ أجلُها وانتقلت إلى جوار ربّها، تاركةً أثرًا خالدًا في النّفوس. لقد كان يوم وفاتها يومًا مهيبًا، فيه احتشدت الجموع من كلّ حدب وصوب، تعبيرًا عن إجلالهم لشخصها العظيم وحزنهم العميق على فقدانها. ويُذكر أنّ أحد قناصل الدّول الكبرى كان في ضيافة سعيد بك جنبلاط، في قصر المختارة، فانضمّ إليه في حضور مراسم العزاء، في مزرعة الشّوف. وحين رأى القنصل الحشود الغفيرة والحزن المُخيّم على النّفوس، خاطب سعيد بك بعبارة لم تزل شاهدة على مكانتها: “اِعمل مثلها تصير عند الله مثلها”.

دُفنت السّتّ فاخرة في ضريح خاصّ، في مزرعة الشّوف، وقد أضحى هذا الضّريح مقصدًا للزّائرين الّذين يقصدونه طلبًا للتّبرّك وإحياءً لذكراها الطّيّبة. خُطّ على شاهد قبرها:

“بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهو حسبنا ونعم الوكيل

دُرِجَت بالوفاةِ إلى غزير الرّحمات

السّتّ الطّاهرة المصونة

والدُّرّة المكنونة الفضيلة التّقيّة الفاخرة

المرحومة السّتّ فاخرة

ابنة الشّيخ أبو عليّ سليمان

تغمّدها الله بالرّحمة والرّضوان

وكان وفاتها نهار الجمعة في شهر ذي الحجّة

سنة ألف ومايتين وخمسة وستّين

من هجرة خاتم النّبيّين”.

يجدر بنا الإشارة إلى أنّه خلال الحملة الفرنسيّة على مزرعة الشّوف، عام 1919، أظهرت السّتّ فاخرة البعينيّ مكانتها حتّى بعد وفاتها. حاول الجنود إحراق الخلوة الّتي تُنسب إليها، لكنّ النّيران لم تمسّها بسوء، ما أوقف المحاولة وأثار دهشتهم. مع ذلك، أحرقوا المنزل الّذي أقامت فيه، تاركين خلفهم عمودًا خشبيًّا كانت تتّكئ عليه، احتُفظ به للتّبرّك. هذا الموقف عزّز ما يُشاع عن مكانتها الرّوحانيّة؛ إذ رأى المعاصرون فيها شخصيّة استثنائيّة لم يتكرّر مثلها.

هكذا، اختصّت السّتّ أمّ عليّ فاخرة بمنزلة رفيعة، تمزج بين طهارة النّفس وسموّ الأخلاق، واستحقّت أعلى المراتب وأسمى الدّرجات بما حملته من فضائل وبما قدّمته من مثال يحتذى به. وإلى يومنا هذا، تبقى سيرتها قدوةً متألّقة للنّساء الموحّدات الفاضلات، يستلهم منها الأجيال معاني الطّهارة والعفاف والزّهد والتّقوى.

_________________________________

[1] نجلاء أبو عزّ الدّين، الدّروز في التّاريخ (شفاعمرو-الرّامة: منشورات العرفان، د. ت.)، ص. 319-320.

[2] فرحان سعيد العريضي، مناقب الأعيان ( )، ج. 3، ص. 168.

[3] المصدر السّابق، ص. 170.

[4] المصدر السّابق.

* * *

للاستزادة والتّوسُّع:

  1. البعيني، حسن. “إحراق الفرنسيّين مزرعة الشّوف”. الضّحى 13، آب 2015. رابط.
  2. العريضي، فرحان سعيد. مناقب الأعيان. عاليه: مدرسة الإشراق، ج. 3، د. ت.
  3. أبو عزّ الدّين، نجلاء. الدّروز في التّاريخ. شفاعمرو-الرّامة: منشورات العرفان، د. ت.
  4. ناطور، سميح. العمامة المكوّرة: تاريخها وسير معتمريها. “المرحوم الشّيخ أبو حسين محمود البعينيّ”، 2007. رابط.
  5. ناطور، سميح. “البعيني، فاخرة (أمّ عليّ)”، موسوعة التّوحيد الدّرزيّة. سميح ناطور (تحرير)، مج. 1 (2011)، ص. 251.
  6. ناطور، سميح. “متفرّقات من الذّاكرة الدّرزيّة”. العمامة 161، تمّوز 2022. رابط.

מבט על

הדרוזים בישראל

ההתיישבות הדרוזית בישראל נחשבת לשלישית בגודלה, מבחינת מספר התושבים, בעולם כולו. הדרוזים בישראל (בני דת הייחוד) מהווים עדה דתית מגובשת, המונה כ- 147 אלף בני אדם, שפתם הינה ערבית ותרבותם ערבית-ייחודית (מונותאיסטית). הדת הדרוזית מוכרת באופן רשמי, על ידי מדינת ישראל, מאז שנת 1957 כישות אחת בעלת בתי משפט והנהגה רוחנית משלה. הדרוזים בישראל חיים כיום בתוך עשרים ושניים כפרים הנפרשים בגליל, בכרמל וברמת הגולן. שני היישובים הדרוזים הגדולים ביותר מבחינת מספר תושבים הם ירכא (16.9 אלף תושבים) ודלית אל-כרמל (17.1 אלף תושבים).

0 K

דרוזים בישראל

0 +

תושבים בדאלית אלכרמל, היישוב הכי גדול בישראל

0

סטודנטים דרוזים בשנת הלימודים 2019/2020 במוסדות להשכלה גבוהה