السّتّ شَعْوانة، أو السّتّ شَعْوان، رضي الله عنها؛ شخصيّة دينيّة بارزة في التّراث التّوحيديّ، تجسّد نموذجًا للعبادة الخالصة والتّفاني الرّوحانيّ، وترتبط سيرتها بمفاهيم الزُّهد والصّبر في مواجهة المِحن. عُرفت بين المؤمنين بعزمها الّذي لا يلين، وتضحيتها الّتي جسّدت روح الإخلاص في عبادة الله. لم تكن حياتها مجرّد رحلة عاديّة، لكنّها كانت اختبارًا لصبرها وإيمانها، وهذا ما جعل مقامها، اليوم، مقصدًا روحانيًّا يزوره المؤمنون لاستلهام العبر والتّبرّك بسيرتها العطرة.
نشأتها ورحلتها
تعود أصول السّتّ شعوانة إلى زمن بني إسرائيل، ويقال إنّها عاشت في بلاد الرّافدين، ووفاتها أرّخت عام 802 للميلاد. كانت ابنة الملك الحزّوريّ (أو حدسوت) الّذي كان يحكم مملكة “حدسور” في العصر العبرانيّ. نشأت يتيمة الأمّ؛ إذ ماتت والدتها وهي لم تزل طفلة، فتعلّقت تعلُّقًا شديدًا بوالدها الّذي لم يكن مجرّد ملِك يسعى إلى السُّلطة، لكنّه كان إنسانًا موحّدًا يبحث عن معنى أعمق للحياة. ومع مرور الوقت، استحوذت عليه فكرة الزّهد والابتعاد عن متاع الدّنيا، وبعد أن سمع عن جماعة “العُبّاد السّبعة” الّذين فاقوا عصرهم في الورع والتّقوى، قرّر أن يتخلّى عن المُلك وينضمّ إليهم، طلبًا إلى بلوغ الصّفاء الرّوحانيّ، غير عابئٍ بملذّات السُّلطة والجاه.
لمّا علمت ابنته بقراره، توسّلت إليه ألّا يتركها وحدها، مؤكّدةً أنّ ابتعادها عنه سيكون أشدّ ألمًا عليها من أيّ مشقّة قد تواجهها في مسيرة الزُّهد. غير إنّ والدها واجه مُعضلة؛ إذ إنّ الانضمام إلى جماعة العُبّاد كان حكرًا على الرّجال، ولا يمكن لأنثى أن تتّبعهم. لكنّ السّتّ شعوانة كانت ذات عزيمة لا تُكسر وإصرار لا يُقهر، فأقنعته بالسّماح لها بمرافقته بعد أن ترتدي زيّ الرّجال، وتتخفّى في هيئة فتًى، لتشارك العُبّاد حياتهم الرّوحانيّة.
رافقت السّتّ شعوانة والدها في مسيرة الزّهد، متنقّلةً بين الجبال والمغارات، حيث عاش العُبّاد، وتعلّمت منهم حِرفة النّسيج وصناعة الحُصُر، وكانت تذهب إلى مدينة بانياس، في الجولان، لبيع ما صنعت بيديها. ومع حياتها المتقشّفة، لم تشتكِ يومًا من قسوتها، بل رأت فيها وسيلةً لتهذيب الرّوح والارتقاء بالنّفس.
الامتحان الأعظم: الاتّهام والنّفي
استمرّت السّتّ شعوانة في نهجها الرّوحانيّ، لكنّ محنةً كبرى عصفت بها، حين وقعت ابنة أحد الملوك في حبّها، ظنًّا منها أنّها شابّ. وبعد أن تجاهلتها السّتّ شعوانة، ادّعت الفتاة أنّ “الشّابّ” اعتدى عليها، متسبّبةً في مأساة كادت أن تودي بحياتها. كان بإمكانها أن تكشف عن هويّتها الحقيقيّة وتبرّئ نفسها، لكنّ الزّاهدة اختارت الصّمت، محتسبةً ظلمها عند الله، مستحضرةً في قلبها أنّ الابتلاء جزء من طريق الطّاعة واليقين.
لم يلقَ أحدٌ بالًا لحقيقة الاتّهام، وأصدر الحاكم حُكمًا بنفيها إلى أقاصي البلاد (وقيل إنّه حبسها)، فأُجبرت على مغادرة المكان الّذي عاشت فيه، ورُحِّلت إلى سهل البقاع في لبنان. هناك، انعزلت تمامًا عن البشر، وغرقت في العبادة، فكانت تقضي ساعات طويلة في السّجود والتّأمّل، حتّى اعتقدت الطّيور الّتي حطّت عليها أنّها جماد لا حياة فيه.
في خضمّ وحدتها، وُضعت أمام اختبار آخر، حين أُجبرت على رعاية طفل يتيم، لم يكن لها يدٌ في وجوده، لكنه صار مسؤوليّتها. فدعت الله تعالى أن يتولّى أمره فاستجاب لها، وأرسل غزالةً لتعتني به وتوفّر له الحليب والغذاء. لاحقًا، ومع ازدياد انشغالها به، دعت الله أن يُعفيها من هذه المسؤوليّة الثّقيلة فجاءها الفرج وعادت إلى انشغالها التّامّ بالعبادة.
إظهار براءتها ووفاتها
مع مرور الزّمن، بدأت أخبار كراماتها تتناقل بين النّاس، وأدركوا مدى زُهدها وطُهرها، حتّى انكشفت حقيقة الاتّهام الّذي طالها. وفي سنواتها الأخيرة، وهبها الله كرامات جعلت الجميع يدركون مقامها الرّفيع، فلمّا شعرت بدنوّ أجَلها، طلبت من العُبّاد الّذين التفّوا حولها أن تُدفن بثيابها كما هي. لكن عند تجهيز جثمانها للدّفن، فوجئ العُبّاد بأنّها كانت امرأة وليست رجُلًا، وانكشف سرّها أخيرًا. وأمام هذا المشهد أُدركت براءتها من التّهم الّتي وُجّهت إليها في حياتها، وعُرف مقدار ما تحمّلته من ظلم وافتراء.
وقد خُلدت قصّتها في أبيات شعريّة كُتبت على لوحة مُعلّقة داخل مقامها الشّريف، وجاء فيها:
“لقد ضمّ هذا القبر خير الأوانس
فتاةً رأت بالله خير مؤانس
ومن عُذّبت قهرًا وظاهر أمرها
غلامٌ يبيع الخوص بالزّهد يكتسي
وظلمًا فتاة اتّهمته بمُنكرٍ
فعاش كئيبًا في الورى عيش بائس
وصيّته عند الوفاة لشيخه
ألا قُدّ عند الصّدر ثوبي وملبسي
فلمّا رأى أنثى أجاب مكبّرًا
هنيئًا لها نالت نعيم الفرادس”.
مقاماتها المقدّسة
يقع مقام السّتّ شعوانة، رضي الله عنها، في منطقة عْميق، على السّفح الشّرقيّ لجبل الباروك، ويُشرف على سهل البقاع وجبل الشّيخ. يُعدّ هذا المقام موقعًا دينيًّا وروحانيًّا بارزًا في الموروث التّوحيديّ، ويقصده الزّوّار للتّبرّك والتّأمّل.
يتكوّن المبنى من غرفة الضّريح، مجلس للصّلاة، وعدد من المرافق المخصّصة لاستقبال الزّوّار. يُحيطه غطاء نباتيّ كثيف من أشجار السّنديان ليمنحه بيئة طبيعيّة هادئة. وقريبًا منه يقع نبع السّتّ شعوانة الّذي يبلغ طوله 72 مترًا، ويرتفع عن سطح البحر حوالي 1200 متر. يتميّز النّبع بمياهه العذبة المتدفّقة على مدار العام، وهو جزء من محميّة أرز الشّوف، ذلك يجعل المنطقة تجمع بين البُعد الرّوحانيّ والبيئيّ في آنٍ واحد.
إضافةً إلى مقامها في لبنان، لها مقام آخر في هضبة الجولان، في قرية عين قنية، بالقرب من مقام سيّدنا الحزّوريّ، رضي الله عنهما. يتميّز هذا المقام بتصميمه الكبير المؤلَّف من ثلاثة طوابق، ويُشرف على مناطق واسعة، مثل: جبال الجليل الأعلى، بانياس، وسهل الحولة. ويشهد هذا المقام الشّريف زيارات دينيّة يجتمع فيها رجال الدّين لإقامة الصّلوات. كما يجتمعون في الثّلاثين من أيّار من كلّ عام، في إحياءٍ سنويّ تقليديّ لزيارة مقام السّتّ شعوانة، حيث يتوافد المئات من أبناء الطّائفة الدّرزيّة للمشاركة في هذه الزّيارة الخاصّة. يتضمّن هذا التجمّع إقامة الصّلوات وقراءة الأدعية بحضور رجال الدّين والمشايخ، ويُنظر إليه بوصفه جزءًا من التّقاليد الدّينيّة والاجتماعيّة المتوارثة.
وهكذا، تمثّل السّتّ شعوانة، رضي الله عنها، رمزًا للصّبر والعبادة في التّراث التّوحيديّ؛ إذ تُعدّ مثالًا للورع والتّضحية في سبيل التّقرّب إلى الله تعالى. يُكرّمها أبناء الطّائفة منذ قرون طويلة، وتبقى قصّتها العجيبة مصدر إلهام للعديد من المؤمنين، نظرًا إلى ما تحمله من معاني الإخلاص، التّضحية والثّبات على العقيدة في مواجهة الظّلم.
***
للاستزادة والتّوسُّع:
- زهر الدّين، صالح. مسيرة الشّهيد كمال جنبلاط والحزب التّقدّميّ والاشتراكيّ. بيروت: المركز الثّقافيّ، 2006.
- سليم، دبيسي. أهل التّوحيد الدّروز وخصائص من مذهبهم الدّينيّة والاجتماعيّة. مج. 3، 1992.
- بو غانم، شفيق. موحّدون في رسالات ومقامات. د. م.: د. ن.، 1993.
- كيان 24. “مقام السّتّ شعوانة… قصّة عابد مظلوم”. كيان 24، 10 أكتوبر 2023.
https://kayan24.com/2023/10/10/مقام-الست-شعوانة-قصة-عابد-مظلوم/.
- ناطور، سميح. “شعوانة، العابدة (ر)”، موسوعة التّوحيد الدّرزيّة. سميح ناطور (تحرير)، مج. 3 (2011)، ص. 76-77.
- ناطور، سميح. “شعوانة (ر)، مقام السّتّ”، موسوعة التّوحيد الدّرزيّة. سميح ناطور (تحرير)، مج. 3 (2011)، ص. 78.
- مشيخة عقل طائفة الموحّدين الدّروز. “مقام السّتّ شعوانة.” الموقع الرّسميّ لمشيخة عقل طائفة الموحّدين الدّروز.
https://mouwahidoundruze.gov.lb/makamat-details/5/2
- المصريّ، مكرم. “أبرز نساء بني معروف – الجزء السّادس: السّتّ شعوانة رضي الله عنها”. Opine Digest، 24 يونيو 2022. رابط.