الشّيخ صالح عامر، رضي الله عنه، كنيته “أبو حسن” ولقبه “أبو ملح”، وهو من مشايخ آل تراب الموحّدين الّذين سكنوا قرى لواء الجليل وعُرفوا بلقبهم هذا زمن الدّعوة إلى مذهب التّوحيد. يُعدّ الشّيخ صالح شخصيّة بارزة في تاريخ قرية البقيعة الجليليّة الدّينيّ والاجتماعيّ، وقد وُلد فيها، في حضن بيت متديّن ومتواضع ماديًّا، وكانت ولادته في النّصف الأوّل من القرن الميلاديّ التّاسع عشر (حوالي عام 1820 م.). وفي زمانه كان رحمه الله من أبرز رجالات الدّين الموحّدين في مستوى البلاد كلّها، ومن أعرفهم بمبادئ مذهب التّوحيد ودقائقه، ويُعدّ شيخًا مرشدًا في تعاليم التّوحيد ووليًّا من أولياء الله الصّالحين وصاحب كرامات عند أبناء الطّائفة المعروفيّة.
توفّى اللهُ تعالى والدَ الشّيخ صالح ولم يزل الأخير في سنّ الشّباب، فصار لِزامًا عليه إعالة أخته الوحيدة وإخوته الثّلاثة الصّغار السّنّ: يوسف، عليّ وأحمد، فبدأ الشّيخ صالح يعمل، وكان يعيش من الزّراعة وقطع الحطب لاستخراج الفحم (المشاحر)، ويرعى إخوانه حتّى بلغوا سنّ الرّشد وأصبح في مقدورهم الاهتمام بنفسِهم. وفي الوقت نفسه كان الشّيخ صالح تلميذًا للشّيخ الجليل المرحوم أبي سلمان أحمد زين الدّين، وعلى يديه تعلّم، هو والشّيخ المرحوم أبو محمّد خليل طافش، من قرية كفر سميع؛ قراءة المعلوم الشّريف حتّى ختماه غيبًا، وكانا صغيرَي السّنّ. وبعد حين سافر الشّيخ صالح إلى حاصبيّا، في لبنان، ليطرح الدّنيا جانبًا ويمكث في خلوات البيّاضة الشّريفة مُقيمًا ومريدًا، حيث كان يقضي أيّامه في الدّرس والحفظ والفقه والعبادة. وبعد إنهائه فترة دراسته العلوم الدّينيّة التّوحيديّة رجع إلى مسقط رأسه، البقيعة، مُكمَّلًا ومُعمَّمًا، وأصبح بإمكانه أن يرشد طالبي العلم ويشملهم في عطائه المعرفيّ الّذي وهبه الله تعالى ايّاه، وسار إليه المشايخ والإخوان في زيارات عديدة للاستفادة والتّعلّم والاستزادة.
علاقات مودّة واحترام متبادل جمعت الشّيخ صالح وكبار مشايخ البلاد، نذكر منهم: الشّيخ المرحوم أبو محمّد خليل طافش، من قرية كفر سميع؛ الشّيخ المرحوم أبو قاسم محمّد فرهود، من قرية الرّامة؛ والشّيخ المرحوم أبو عليّ محمّد فارس، من قرية حرفيش، وغيرهم. وكانت للشّيخ صالح مكانة كبيرة عند إخوانه، حتّى قيل إنّه الأوّل في مشايخ آل تراب، كما حظي باحترام وتقدير أبناء مختلف الطّوائف في قريته، البقيعة، على وجه الخصوص.
تزوّج الشّيخ صالح ثلاث مرّات زواجًا نظريًّا وليس من أجل التّناسل؛ في المرّة الأولى تزوّج السّيّدة حِسِن مهنّا وطلّقها بعد فترة، ثمّ تزوّج السّيّدة فاخرة زين الدّين الّتي طالبته بالإنجاب رغم الاتّفاق المُسبّق بينهما على عدم الإنجاب، فطلّقها هي الأُخرى، ثم تزوّج السّتّ ندى زين الدّين، وهي ابنة عمّه، فقامت على خدمته حتّى آخر حياته.
في مرحلة ما، وبعد عودته من حاصبيّا حيث البيّاضة الزّاهرة، انتقل الشّيخ صالح من البقيعة إلى قرية كسرى وسكنها، وفيها صار مرجعيّة للمُريدين والقاصدين كافّةً. وليكسب لقمة العيش الحلال كان ينسخ المصحف الشّريف ويبيعه، كما كان ينجّد الفراش، إضافةً إلى كونه خطيبًا قديرًا في تعليم الأولاد.
ونقلًا عن رواية بعضٍ من المشايخ الثّقات، على لسان الشّيخ المرحوم أبي عليّ فارس عبدالله، وهو من قرية كسرى؛ إنّ الشّيخ أبا عليّ فارس كان في زيارة إلى بيت الشّيخ صالح أبو ملح، قُبيل وفاة الأخير بأيّام ثلاثة، فوجده ينشد شِعرًا حزينًا، فسأله عن السّبب، فأجابه الشّيخ صالح إنّه سيفارق هذه الدّنيا الفانية بعد ثلاثة أيّام، وإنّه يعرف ذلك لأنّ من كان فِكره وقلبه مع الله سبحانه دلّه الله تعالى وأنار بصيرته. وحدث المصاب الجلل في الوقت المحدّد كما وصفه الشّيخ صالح نفسُه، وحصلت وفاته فعلًا في اليوم الثّالث، وقيل إنّه عاش بين 80-85 عامًا، رحمه الله. فلمّا حان موعد دفن الجثمان، طلب مشايخ كسرى أن يتمّ الدّفن في قريتهم كون المرحوم قضى سنين عمره الأخيرة فيها، في حين أراد مشايخ البقيعة دفنه في مسقط رأسه، غير إنّ الخلاف في الرّأي لم يطُل؛ إذ تقدّم الشّيخ المرحوم أبو نايف خير الصّالح خير، من البقيعة، وقال: “المرحوم الشّيخ صالح أوصاني وأمّنني أن أدفنه، وابني نايف، في مسقط رأسه، البقيعة”، فاستجاب المشايخ حديثَ الشّيخ خير ووصيّة المرحوم الشّيخ صالح، وجرى الاتّفاق على دفن الجثمان في قرية البقيعة.
دُفن الشّيخ صالح في المقبرة القديمة في قريته، البقيعة، وله فيها مزار متواضع يتكوّن من حجرة واحدة فيها الضّريح، يزوره النّاس خاصّةً عند طلب الشّفاء لعزيز مريض، وإلى جانبه في المقبرة ضريح الشّيخ نايف خير الّذي كان تلميذ الشّيخ صالح ورفيقه.
***
للتّوسُّع والاستزادة:
- عامر، نعيم عبدالله. سيرة المرحوم الشّيخ صالح أبو ملح رحمه الله. د. م.، د. ن.، د. ت.
- “الوليّ صالح أبو ملح”، العمامة 34 (2000)، ص. 6.
- فؤاد سويد، “سيّدنا الشّيخ أبو حسن صالح أبو ملح (رضي الله عنه)”، العمامة 77 (2006)، ص. 5-7.
- نسيب بدر، “مشايخ آل تراب في القرن العشرين في بلاد صفد”، العمامة 155 (2021)، ص. 22-23.