يشكّل القضاء المذهبيّ الدّرزيّ جزءًا من تنظيمات الدّولة القضائيّة، وتُعدُّ المحاكم الدّينيّة الدّرزيّة في إسرائيل مؤسّسات قضائيّة مستقلّة ومتخصّصة، تضطلع بمسؤوليّة إدارة الشّؤون الدّينيّة والشّخصيّة لأبناء الطّائفة المعروفيّة الدّرزيّة، وذلك في إطار خصوصيّتها العقائديّة والتّاريخيّة الّتي تنبع من المذهب التّوحيديّ الدّرزيّ، القائم على مبادئ روحانيّة وفكريّة متفرّدة، متوارثة عبر الأجيال، وتراعي القوانين والتّقاليد الّتي تُميّز الطّائفة عن غيرها من المجتمعات الدّينيّة. هذه الخصوصيّة تعكس مكانة الطّائفة في الحفاظ على إرثها الثّقافيّ والدّينيّ ضمن سياق مجتمعيّ حديث. تمثّل هذه المحاكم نموذجًا فريدًا لاستقلال الطّائفة الدّرزيّة ضمن النّظام القانونيّ الإسرائيليّ؛ إذ تأسّست وَفق أُسس قانونيّة راسخة تهدف إلى ضمان احترام خصوصيّة الطّائفة الدّينيّة والقضائيّة، مع التّأكيد على مكانتها داخل الدّولة.
النّشأة والتّطوّر التّاريخيّ
نشأت فكرة إنشاء المحاكم الدّينيّة الدّرزيّة في سياق تاريخيّ طويل من الاستقلاليّة الدّينيّة الّتي سعت الطّائفة للحفاظ عليها عبر العصور. ويعود أصل النّظام القضائيّ الخاصّ بالطّائفة إلى تقاليد توحيديّة متأصّلة كانت تُمارَس في مناطق انتشار الموحّدين الدّروز في بلدان الشّرق الأوسط، سيّما في لبنان وسورية.
خلال فترة الانتداب البريطانيّ، لم تعترف سُلْطات الانتداب بالطّائفة الدّرزيّة بوصفها طائفة مستقلّة، ولم تمنحها صلاحيّة إقامة محاكم دينيّة خاصّة بها. في البداية، قلّصت سُلْطات الانتداب صلاحيّات القاضي الدّرزيّ وحصرتها في قضايا الأحوال الشّخصيّة فقط. أمّا في مسائل الوصيّة والميراث فقد كان الاعتراف بقراراته مشروطًا بموافقة الطّرفَين على اللّجوء إليه.
وفي عام 1922 م.، وضعت حكومة الانتداب دستور فلسطين الّذي اعترف بالمحاكم الدّينيّة القائمة آنذاك. وبما أنّ الطّائفة الدّرزيّة لم تكن لديها محاكم خاصّة بها في تلك الفترة، لم تشملها سُلْطات الانتداب ضمن الطّوائف المعترف بها، ولم تمنحها الحقّ في إقامة محاكم دينيّة مستقلّة.
وفي عام 1932 م.، تقلّصت، مرّة أُخرى، صلاحيّات القاضي الدّرزيّ؛ إذ حُصرت في الأحوال الشّخصيّة فقط، ولم يُسمح له بالنّظر في شؤون الوصيّة والميراث. وفي تلك السّنوات الأولى من الانتداب، توجّه الدّروز إلى الإدارة العسكريّة مطالبين بالاعتراف باستقلالهم الطّائفيّ وتثبيت تعيين الشّيخ طريف طريف قاضيًا للطّائفة، كما كان الحال في العهد العثمانيّ.
ومع قيام دولة إسرائيل، عام 1948 م.، برزت الحاجة أكثر إلى إنشاء نظام قانونيّ خاصّ بالطّائفة الدّرزيّة، يتماشى مع خصوصيّاتها الدّينيّة والثّقافيّة، ويمنحها استقلاليّة في إدارة شؤونها الشّخصيّة والدّينيّة، حتّى تأسّست المحكمة الدّينيّة الدّرزيّة الأولى إلى جانب محكمة الاستئناف في مدينة حيفا، في كانون ثانٍ عام 1963 م.، قبل نقلهما إلى عكّا في أكتوبر 1988 م.، وقد تأسّستا بعد تبنّي قانون الأحوال الشّخصيّة اللُّبنانيّ للطّائفة الدّرزيّة وتشريع قانون المحاكم الدّينيّة الدّرزيّة عام 1962 م.. هذا التّشريع وفّر الأساس القانونيّ الّذي أتاح لهذه المحاكم تحقيق استقلاليّتها، مع منحها الصّلاحيّات الكاملة لمعالجة قضايا الأحوال الشّخصيّة بما يتوافق مع أعراف المذهب التّوحيديّ.
هيكل المحاكم وصلاحيّاتها
في إسرائيل ثلاث محاكم دينيّة درزيّة:
- محكمة عكّا الدّينيّة الدّرزيّة: أُسّست عام 1963 م.؛
- محكمة بقعاثا الدّينيّة الدّرزيّة (هضبة الجولان): أُسّست عام 1972 م.؛
- محكمة الاستئناف الدّينيّة الدّرزيّة في عكّا: أُسّست عام 1963 م..
تعمل المحكمة الدّينيّة الدّرزيّة ضمن إطارين منفصلَين من حيث المضمون والصّلاحيّات المخوّلة لكلّ منهما: المحكمة البدائيّة الّتي تعقد جلساتها طوال أيّام الأسبوع، في مقرّها الدّائم؛ مدينة عكّا، باستثناء عطلة نهاية الأسبوع. كما يُخصَّص يوم في الأسبوع بالتّناوب بين فرعَين: الأوّل في قرية مسعدة الجولانيّة، حيث أُسِّس هذا الفرع منذ عام 1972 م.، والآخر في قرية عسفيا الكرمليّة. ويتألّف طاقم المحكمة من ثلاثة قضاة يؤدّون مهامّهم وَفقًا للاختصاصات الممنوحة لهم. كما تلتئم محكمة الاستئناف لدى الضّرورة في مقرّها الدّائم؛ مدينة عكّا.
تقتصر صلاحيّات هذه المحاكم على قانون الأحوال الشّخصيّة للدّروز في إسرائيل فقط، ما يضع حدودًا واضحة لاختصاصها الّذي يشمل: الزّواج، الطّلاق، التّمرّد والامتثال (الطّاعة)، النّفقة، حضانة الأطفال، تعيين الوصيّ وتحديده، تسجيل الوصيّة في الحياة، الوصايا، أوامر الميراث، تعيين المأذونين، أوامر بعدم مغادرة البلاد. كما أنّه يُشترط الحصول على تصريح من المحكمة الدّينيّة قبل تنظيم عقود الزّواج (عقد القران)، وهي مهمّة يقوم بها 60 مأذونًا في القرى الدّرزيّة، منهم سبعة في هضبة الجولان.
تُمارس المحاكم الدّينيّة الدّرزيّة اختصاصاتها المذكورة مستندةً إلى قواعد المذهب التّوحيديّ وأعرافه. وتُجسّد هذه المحاكم التزامًا بالحفاظ على الهويّة الدّينيّة للطّائفة، مع مواءمة هذه الهويّة مع الإطار العامّ للدّولة، ما يعكس التّوازن بين التّقاليد العريقة ومتطلّبات العصر الحديث.
الاستقلاليّة والتّبعيّة الإداريّة
منذ إنشائها، شكّلت المحاكم الدّينيّة الدّرزيّة جسمًا قضائيًّا مستقلًّا تحت إشراف وزارة الأديان، وكان مقرّها، كما أسلفنا، مدينة حيفا، إلى أن أُدرجت ضمن صلاحيّات وزارة العدل، في تشرين ثانٍ عام 2001 م. واستقرّت في مدينة عكّا، في خطوة عزّزت استقلالها المؤسّسيّ ورسّخت مكانتها بوصفها هيئة قضائيّة ذات طابع خاصّ ضمن النّظام القانونيّ الإسرائيليّ، أسوةً ببقيّة الطّوائف في البلاد.
تمثّل المحاكم الدّينيّة الدّرزيّة تجسيدًا لالتزام الطّائفة بالحفاظ على هويّتها الدّينيّة والتّقليديّة، في الوقت الّذي تسعى فيه إلى التّوافق مع متطلّبات العصر الحديث. ويُبرز هذا التّوازن بين العراقة والتّحديث خصوصيّة الطّائفة ودورها كمكوّن أصيل في المجتمع الإسرائيليّ.
فيما يلي نموذج هيكل المحاكم الدّينيّة الدّرزيّة لعام 2023 م.، كما ورد في الموقع الرّسميّ الخاصّ بها:
* * *
للاستزادة والتّوسُّع:
- ملّا، كميل. من المحاكم الدّينيّة الدّرزيّة: وقفة مع قضايا من واقعنا وأحوالنا الشّخصيّة. عكّا: المحاكم الدّينيّة الدّرزيّة، 2019.
- نصر، مرسل. الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة. لندن: مؤسّسة التّراث الدّرزيّ، 2009.
- هشي، سليم حسن. دروز بيروت، تاريخهم ومآسيهم. بيروت: دار لحد خاطر، 1985.
- قانون الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة في إسرائيل.
- الموقع الرّسميّ للمحاكم الدّينيّة الدّرزيّة في إسرائيل:
https://www.gov.il/ar/departments/druze-courts-in-israel/govil-landing-page
- نظام أصول المحاكمات أمام المحاكم الدّرزيّة لسنة (1964).