مجلّة نهج الميثاق؛ إصدار مركز التّراث الدّرزيّ في إسرائيل
العدد الأوّل | كانون ثانٍ 2020
كاتب المقالة: كمال كيّوف
التراث هو كل ما يرثه الأبناء عن الآباء والأجداد في المجاليْن الروحي والمادي، فهناك تراث مذهبي واجتماعي وثقافي وقومي وشعبي-فني ومن جهة أخرى تراث مادي أثري عمراني وأدوات حياتية ملموسة.
كان البحث عن التراث وإحيائه في أوروبا مقدمة لنشوء عصر النهضة (الرينيسانس) وإذا ارادت الطائفة الدرزية النهوض بأبنائها والمرور بما يسمى النهضة الحديثة فلا بد لها من ان تقوم بإحياء تراثها في جميع المجالات والمحافظة على نقاوة لغتها العربية لأن اللغة هي القالب الثقافي وأداة التفكير والحيز الذاتي الروحي، وليس فقط وسيلة اتصال، في نفس الوقت، هذا لا يعني ان نتقبل كل ما في التراث كما هو على علاته دون غربلة وملائمة للعصر الحاضر والثورة العلمية الحديثة والتقدم الحضاري.
ان الجماعات الإنسانية والأقليات الاثنية التي تقدّمت ولحقت بركب الحضارة الحديثة، قامت بدراسة ماضيها وتعلّمت منه لتفهم حاضرها وتخطّط مستقبلها، لكن لا نستطيع ان نتعلم من تاريخنا الدروس والعبر الحقيقية إذ اقتصر ذلك على التمجيد والتهليل او التقديس بدون نظرة نقدية وتفكير وتحليل علمي وأجواء تتسم بالحرية الى أبعد الحدود. ان هذه المهمة الشريفة يجب ان تبدأ بجمع كل التراث التوحيدي المخطوط والمطبوع، من كتب ومقالات ووثائق من إسرائيل والعالم وفي جميع اللغات منذ دعوة التوحيد وحتى اليوم وذلك ليتسنّى لكل فرد من داخل الطائفة وخارجها، للباحثين والدارسين الاطلاع عليها ونقلها للأجيال القادمة.
يوجد في الشرق الأوسط حاليا صراع خفي ومسكوت عنه، هو محاولات بلورة الذاكرات الجماعية للأقليات وتشكيل العقل الجمعي ومنها الدروز ولا بد من الإشارة الى ان أهم عوامل تشكيل الذاكرة الجماعية، هو التراث والتاريخ واللغة التي يكتب وينطق فيها اتباعها، ومنها تتبلور الهوية الجماعية والشعور بالانتماء الاثني، لذلك نجد عندنا أكثر من رواية تاريخية او دينية واحدة، لأسباب عديدة سابقة وحاضرة، لا يتسع هنا المجال للدخول فيها.
سبقت دعوة التوحيد التي انطلقت من مدينة القاهرة في مصر، حركات عقلية واجتماعية كالأفلاطونية الجديدة والقدرية والجبرية والمعتزلة وإخوان الصفا والصوفية الفلسفية والحركة الإسماعيلية والفلاسفة المسلمين وعلماء الكلام كالأشاعرة ، نجد ان المشترك فيما بينها هو اعمال العقل في النص الديني، أي تفسير او تأويل النصوص وفق المنطق العقلي او الدفاع عن العقيدة استنادا الى العقل ، لذلك أسس الخليفة الحاكم بأمر الله دار الحكمة كمكتبة ومؤسسة تعليمية جامعية في القاهرة ( التي احتوت على حوالي مليون وستمائة الف كتاب حسب المقريزي المؤرخ المصري أي كل التراث الإنساني حتى ذلك الوقت ) وأصدر سجلا بالبدء بدراسة وفهم وإعادة النظر في جميع العقائد والنظريات والأفكار السابقة ، حيث رصد لها الميزانيات والأوقاف ولوازم الكتابة والقرطاسية والتأليف، كما قرّب العلماء والحكماء والفلاسفة، هنا أقيمت المحاضرات ومجالس الحكمة كما أقيمت في قصر الخلافة والمسجد الازهر، بعد ان كانت قد حصلت على مصادقة ديوان الخلافة ثم اطلقت على شكل رسائل الى المؤمنين في شتى انحاء الدولة الإسلامية.
بقيت دار الحكمة فاعلة باستثناء بعض الفترات القصيرة، حتى قضى صلاح الدين الأيوبي على الدولة الفاطمية عام 1171 م وعرض مكتبة دار الحكمة للبيع وسمح بإبادة التراث الفاطمي الإسماعيلي، المحفوظ في مكتبات دور الحكمة في المدن الرئيسية الأخرى، لذلك اندثر الكثير من المصادر الأولية التي نحتاجها اليوم لنكتب عن تلك الفترة، وشرع بإقامة ما سمي آنذاك ” المدرسة ” في جميع انحاء مناطق حكمه لنشر الفكر الأشعري ومحو الفكر الإسماعيلي الفاطمي من مصر وبلاد الشام.
لقد ساد أثناء هذا العصر صراع مرير في الحضارة العربية الإسلامية بين المؤمنين بالعلوم النقلية وبين المؤمنين بالعلوم العقلية ، بين أصحاب الفكر الاتباعي وبين أصحاب الفكر الإبداعي ، بين المؤمنين بالعقل والمنطق وبين المؤمنين بالأسطورة والخرافة، حيث انتهى بتحجيم العقل وتكفير الفلاسفة اليونانيين والمسلمين والمعتزلة وجميع الفرق الإسماعيلية والشيعية وإغلاق باب الاجتهاد والتأويل على يد الشيخيْن ابي حامد الغزالي وابن تيمية، فتجمّدت الحضارة العربية الإسلامية وتوقّفت منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا باستثناء فترة ابن خلدون الذي توفي في 1402م.
بالنسبة لمحنة انطاكيا التي تعرض لها اتباع مذهب التوحيد، يجب علينا أولا ان نسجل ان المحنة مصطلح ديني، يعني امتحان الله للمؤمن في مدى صدق عقيدته، والعقيدة لا تصح الا عند الامتحان وهنا يجب التفريق بين ما سمي “محنة الدجال” وبين محنتي انطاكيا وحلب.
محنة الدجال: وقعت مباشرة بعد اختفاء الخليفة الحاكم بأمر الله في ليل 12/13 شباط 1021 م واعتلاء علي الظاهر لدين الله الخلافة الفاطمية حيث يقول المؤرخان عباس أبو صالح وسامي مكارم ان السبب الحقيقي لاضطهاد الموحدين هو عدم اعترافهم بعلي الظاهر إماما لهم اذ يعتقدون أن الإمامة انتهت بالحاكم بأمر الله الذي سلمها الى الإمام حمزة بن علي الزوزني في الأول من محرم سنة 408 ه فأصبح الموحدون خارجين عن طاعته ولا يدينون له بالولاء ومن هنا قرر اضطهادهم وتعذيبهم والتنكيل بهم وهدر دمائهم وحتى القضاء عليهم اذا لم يعلنوا الولاء له وذلك بمشورة صالح بن مرداس خصم الموحدين حسب المصادر التوحيدية .
استمرت هذه المحنة بين السنوات 1021-1026م وشملت جميع المناطق بين انطاكيا والإسكندرية حيث توقفت الدعوة في هذه الفترة ، عمل الأمير رافع بن ابي الليل جاهدا كأحد قواد الخليفة علي الظاهر آنذاك على الدفاع عن الموحدين ورفع الضيم عنهم وحقن دمائهم ولا تفيدنا المصادر التاريخية او الدينية عن عدد الذين لقوا حتفهم في هذه المحنة لكنهم يقدَّرون بالألاف وهناك أوصاف مريعة كذبح الموحدين على يد رجال علي الظاهر ورفع رؤوسهم على الرماح او حرقهم بالنار وبقر البطون وقطع القلوب والأكباد وصلب الرجال وسبي النساء والأطفال وسلب الأموال.
محنة انطاكيا وحلب: قتل صالح بن مرداس والي حلب في معركة الاقحوانة قرب طبريا على يد الأمير رافع بن ابي الليل في سنة 1029م فتنكّر له الفاطميين وناصبه قائدهم الدزبري العداء لمدة تسع سنوات، تسلم نصر بن صالح مرداس القيادة مكان أبيه ودخل مباشرة في أزمة مع البيزنطيين، إما تسليم حلب وإمّا إعلان الخضوع والولاء لهم فاختار إعلان الولاء، عند ذلك رأى نقيطا قبطان حاكم انطاكيا البيزنطي أن الموحدين قد أصبحوا قوة سياسية-عسكرية يحسب لها حساب، خاصة بعد ان استجابت أعداد كبيرة لدعوة التوحيد من منطقة انطاكيا وحلب وانضمّت إليهم اعداد أخرى من اخوانهم الموحدين من مختلف انحاء بلاد الشام، يقدِّرها المؤرخ عباس أبو صالح بسبع مئة الف قبل بدء عمليات الاضطهاد والملاحقات، وقد سيطروا على المناطق المشرفة على نهر العاصي المتميزة بأهميتها الاستراتيجية وتحصيناتها الطبيعية، مما زاد من قوتهم وأصبحوا يشكّلون تهديدا للبيزنطيين والمرداسيين والفاطميين.
قرر نقيطا قبطان حاكم انطاكيا البيزنطي ونصر بن صالح مرداس على هذه الخلفية اختيار الفرصة المناسبة لضربهم وإخضاعهم او القضاء عليهم، ففي سنة 1032م قبض البيزنطيون على قسم من دعاتهم وزعمائهم وقتلوهم، فانتقل الموحدون الى تحصيناتهم وكهوفهم في الجبال، فتعقّبهم البيزنطيون والمرداسيون وحاصروهم لمدة 22 يوم حتى خرجوا من تحصيناتهم طالبين الأمان فقُتل من قُتل ونجا من نجا.
في هذه الأثناء كان الأمير رافع بن ابي الليل جزء من التحالف القبلي يمارس سياسة مهادنة البيزنطيين والسكوت على مضض حتى نهاية عهد الخليفة الظاهر، للمحافظة على الموحدين في جبل لبنان ووادي التيم وضواحي دمشق وجبال الشيخ والجليل واللد والرملة وعسقلان، بالتنسيق مع بني تنوخ وبني جندل وفخر الدولة ابي يعلى حمزة بن الحسين الدمشقي.
مات الخليفة علي الظاهر في سنة 1036 واعتلى الخلافة المستنصر لدين الله فانتهج سياسة جديدة وعيّن الداعي بهاء الدين كاتبا في ديوان المكاتبات وقاضيا في قصر الخلافة، فعادت الدعوة التوحيدية الى سابق عهدها واقتضت مصلحة الموحدين موالاة الخليفة الجديد، حرصا على سلامة واستمرار الدعوة وانضمام الأمير رافع بن ابي الليل الى جيش الفاطميين في بلاد الشام، تمهيدا للقضاء على نصر بن صالح مرداس وإبعاد خطر البيزنطيين عن الموحدين.
قرر القائد الفاطمي الدزبري احتلال حلب، ففاوض امبراطور الروم كي لا يتدخل الى جانب نصر بن صالح بن مرداس واستمال الى جانبه حسان بن مفرج الطائي ورافع بن ابي الليل، الذي عيّنه قائدا للجيش الفاطمي فهُزم نصر بن صالح مرداس في معركة تل فاس بمنطقة حمص، فحاول الفرار لكن لحق به أحد الجنود وقتله وذلك في سنة 1038م.
بعد انتصار الفاطميين بقيادة رافع بن ابي الليل على المرداسيين واحتلال منطقة حلب، مرت على الموحدين فترة هدوء واستقرار، وتولّى رجالاتهم مناصب مرموقة في الدولة الفاطمية في عهد الخليفة المستنصر لدين الله، مثل الداعي بهاء الدين وفخر الدولة ابي يعلى حمزة بن الحسين الدمشقي وواصل الدعاة نشاطهم في نشر الدعوة حتى سنة 1043م حيث توقفت نهائيا.
لقد كان ضحية هذه الأحداث الألوف من القتلى، لا نستطيع تحديد عددهم بالأرقام واضطر الكثيرين منهم الى العودة للمذهب السني او الفاطمي-الإسماعيلي، وهاجر الكثيرين الى الجبال الخالية من السكان آنذاك، ونزح قسم الى منطقة مدينة كلس شمال شرق انطاكيا، وقسم الى جبال الشوف والشيخ والجليل، والقسم القليل بقي في الجبل الأعلى او جبل السماق حتى يومنا هذا.
لقد دفع الموحدون الدروز ثمن إيمانهم بالتنزيه والوجود وتقديرهم للعقل وتأثرهم بالروح الفلسفية اليونانية والتنوير وتحقيق إنسانية الإنسان وبحثهم عن الحقيقة الأخيرة للوجود بالكثير من الجهد والصبر والمعاناة والدماء العزيزة حتى يثبّتوا وجودهم في أوطانهم ويحافظوا على استمراريته حتى اليوم.