النّفقة في اللُّغة تُشير إلى الإنفاق، بمعنى الإخراج والنّفاد، ويُقال: “نَفِقَ مالُه” أو “نَفِقَ طَعامُه”؛ أي: فنِيَ أو ذهَبَ. أمّا في الاصطلاح، فالنّفقة تُعبِّر عن التزام يوجب كفايةَ من يعولُه الشّخص، ويشمل ذلك توفير الطّعام، والكِسوة، والمسكن، والتّطبيب وما يلزم كلّه لضمان حياة كريمة للمستحِقّ، وَفقًا للضّوابط الشّرعيّة أو القانونيّة.
دينيًّا، شرّع الله تعالى النّفقة لتحقيق غايات سامية وحِكَم بالغة تهدف إلى ترسيخ قيَم التّكافل والإحسان في المجتمع الإنسانيّ. فقد أوجب النّفقة على من تلزمه تُجاه مستحقّيها وَفقًا لروابط القرابة والاحتياج. أوّلًا، شُرّعت النّفقة على الزّوجة؛ لأنّها بحُكم الزّواج مقيّدة بواجبات تُجاه زوجها ولا تُكلَّف بالكسب، فجُعل لها حقّ النّفقة ضمانًا لرعايتها وتلبيةً لاحتياجاتها المعيشيّة. ثانيًا، شُرّعت النّفقة على الوالدَين في حال حاجتهما، وذلك تأكيدًا لمبدأ البرّ والإحسان الّذي جعله الله تعالى واجبًا على الأبناء تُجاه آبائهم. ثالثًا، جاءت النّفقة على الأقارب الفقراء وسيلةً لصلة الرّحم ومواساةً للمحتاجين من ذوي القربى، وتعزيزًا للتّكافل الاجتماعيّ داخل المجتمعات.
تحتلّ النّفقة مكانة جوهريّة في العقيدة التّوحيديّة؛ إذ تنطلق من المبادئ الأخلاقيّة والرّوحانيّة الّتي تشكّل أساس السّلوك الدّينيّ والاجتماعيّ للموحّدين. تُعدّ النّفقة تجسيدًا عمليًّا لقيم الإحسان والتّكافل، ويرتبط مفهومها ارتباطًا وثيقًا بفكرة المسؤوليّة الأخلاقيّة تُجاه الأسرة والمجتمع. ترى العقيدة التّوحيديّة-الدّرزيّة أنّ الالتزام بالنّفقة ليس مجرّد واجب مادّيّ بحت، لكنّه وسيلة لتقوية الرّوابط الاجتماعيّة وتعزيز المحبّة والانسجام بين أفراد المجتمع أيضًا.
تنعكس مكانة النّفقة في النّصوص الدّينيّة الّتي تؤكّد على واجب إعالة أفراد الأُسرة من الزّوجة والأبناء، إضافةً إلى أهمّيّة مساعدة المحتاجين من الأقارب أو الجيران. ومن منظور روحانيّ، تُعدّ النّفقة ممارسةً تعزّز الصّفاء النّفسانيّ والتزام الفرد بمبادئ العدل والرّحمة. كما تُشير التّعاليم التّوحيديّة إلى أنّ النّفقة جزء من الواجبات الأخلاقيّة الّتي تهدف إلى تحقيق التّوازن المجتمعيّ والانسجام بين أبناء الطّائفة، ما يجعلها ركنًا هامًّا في بناء مجتمع موحّد يرتكز إلى التّعاون والإحسان.
أنواع النّفقة
أنواع النّفقة تتفرّع إلى ثلاثة أصناف رئيسة، تشمل: النّفقة الزّوجيّة، النّفقة الواجبة للأبناء على الآباء، النّفقة الواجبة للأبوين على الأبناء ونفقة ذوي الأرحام.
النّفقة الزّوجيّة
وَفقًا لقانون الأحوال الشّخصيّة الدّرزيّة، تُعدّ النّفقة الزّوجيّة التزامًا واجبًا على الزّوج لضمان حياة كريمة للزّوجة، وتشمل تأمين احتياجاتها الأساسيّة من طعام وكسوة ومسكن وتطبيب، بالإضافة إلى توفير خدمة الزّوجة ذات الكرامة أو العاجزة أو المريضة. ويُشدّد القانون على أنّ هذه النّفقة واجبة الأداء سواءٌ بتراضي الطرفَين أو بحُكم من القاضي، ممّا يضمن استمراريّة الحقوق الزّوجيّة حتّى في حالة النّزاع أو التّعثّر الماليّ.
ينصّ القانون على مرونة في تقدير النّفقة؛ إذ يمكن زيادتها أو تقليلها بناءً على تغيّر الأحوال الاقتصاديّة أو ظروف الزّوجَين المادّيّة، كما هو مذكور في المادّة 29. وإذا امتنع الزّوج الحاضر عن الإنفاق على زوجته، فإنّ القاضي يُلزم بتقدير النّفقة منذ يوم الطّلب، وله أن يأمر بدفع سلفة فوريّة للزّوجة لضمان حقوقها (المادّة 30). في حالات عجز الزّوج أو غيابه أو فقدانه، يكفل القانون للزّوجة الحقَّ في طلب النّفقة من المحكمة، على أن تُثبت حالتها وتؤدّي يمينًا يؤكّد احتياجها وعدم حصولها على نفقة كافية (الموادّ 31-34).
يُبرز القانون حماية حقوق الزّوجة حتّى في حالة تراكم النّفقة غير المدفوعة؛ إذ ينصّ في المادّة 35 على أنّ النّفقة المتراكمة لا تُسقط بالطّلاق أو بوفاة أحد الزّوجَين، ما يعكس التزامًا واضحًا بحماية الزّوجة مادّيًّا. ومع ذلك فإنّ القانون يقيّد حقّ الزّوجة في النّفقة في حالات النّشوز؛ إذ تُسقط نفقتها إذا غادرت بيت الزّوجيّة من دون سبب مشروع أو منعت الزّوج من الدّخول إلى البيت (المادّة 36).
تُظهر هذه الأحكام التّنظيم الدّقيق الّذي يوازن بين حقوق الزّوجة وواجبات الزّوج، مع ضمان تطبيق النّفقة بمرونة وعدالة تُراعي ظروف الطّرفَين المادّيّة والاجتماعيّة.
النّفقة الواجبة للأبناء على الآباء
تُعدّ النّفقة على الأبناء التزامًا قانونيًّا وشرعيًّا يُوجب على الآباء تأمين متطلّبات الحياة الأساسيّة لأبنائهم، بما يشمل الطّعام، والمسكن، والتّعليم، والرّعاية الصّحّيّة، حتّى يبلغ الأبناء سنَّ الرّشد أو يتمكنوا من الكسب المعيشيّ. وتُعدّ هذه النّفقة من أسمى الواجبات الأبويّة الّتي تهدف إلى تحقيق الاستقرار والنّموّ السّليم للأبناء، وهي انعكاس عمليّ لقيَم المسؤوليّة الأبويّة.
على نطاق أوسع، تشمل النّفقة الموجبة للقرابة المحرّمة للزّواج؛ إذ تُفرَض على الشّخص لكلّ قريب فقير تربطه به قرابة محرميّة، وتشمل الأصول والفروع والحواشي، مثل: الأخوة والأخوات وأولادهم والأعمام والعمّات والأخوال والخالات. استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿واعبُدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى﴾ (سورة النّساء: الآية 36)، فإنّ الإحسان إلى الوالدين يُعدّ من أعظم مظاهر البرّ، ما يجعل النّفقة عليهم واجبًا شرعيًّا. كما أشار الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وآتِ ذا القربى حقَّه﴾ (سورة الإسراء: الآية 26)، إلى أنّ ذوي القربى لهم حقّ شرعيّ، وأوّل هذه الحقوق هو النّفقة، إذ تُعدّ وسيلةً أساسيّةً للإحسان وصِلة الرّحم الّتي تعزّز التّماسك الأُسريّ والاجتماعيّ.
النّفقة الواجبة للأبوَين على الأبناء ونفقة ذوي الأرحام
وَفقًا لقانون الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة، تشمل النّفقة الواجبة للأصول الأبوَين المباشرَين للمُكلَّف بالنّفقة، إضافةً إلى أجداده وجدّاته، سواءٌ كانوا من جهة الأب أو الأمّ. وتنصّ المادّة (75) من القانون على أن “تجب على الولد المعسر كبيرًا كان أم صغيرًا، ذكرًا أم أنثى، نفقة والدَيه وأجداده وجدّاته الفقراء”، وهو ما يُبرز أهمّيّة التزام الفروع برعاية أصولهم المادّيّة في حال عجزهم عن توفير متطلّبات المعيشة الأساسيّة.
تُفرض نفقة الأصول على الفروع بشرطَين رئيسَين:
- فقر الأصل: أن يكون الأب أو الجدّ فقيرًا، ولا يُشترط أن يكون عاجزًا عن الكسب. وقد استُدلّ على ذلك بالنّهي الإلهيّ عن إيذاء الوالدَين أو إتعابهما، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وبالوالدين إحسانًا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولًا كريمًا﴾ (سورة الإسراء: الآية 22).
- قدرة الفرع: أن يكون الابن أو الابنة قادرًا على الإنفاق، سواءٌ بفضل اليسر الماليّ أو القدرة على الكسب. إذا توفّرت هذه القدرة، أُوجب عليه إعالة والديه أو أجداده الفقراء، بما يشمل المأكل والمأوى والرّعاية الصّحّيّة. وتُعامل الأمّ المحتاجة معاملة الأب الفقير من حيث حقّها في النّفقة، بغضّ النّظر عن حالتها الصّحّيّة. وإذا كان الابن مسؤولًا عن أُسرة، يُلزَم بضمّ والدَيه المحتاجَين إلى رعايته وإنفاقه
أمّا بخصوص نفقة ذوي الأرحام فإنّها تشمل الأقارب من جهة المحرميّة، مثل: الأخوة والأخوات وأولادهم والأعمام والعمّات والخالات والأخوال. تستند هذه النّفقة إلى تعزيز صِلة الرّحم الّتي أوصى الله بها في قوله: ﴿وآت ذا القربى حقه﴾ (سورة الإسراء: الآية 26). وجعل الله لهم حقوقًا على القريب الميسور ليضمن التّعاون والمواساة، ما يعزّز التّماسك الأُسريّ والاجتماعيّ.
هذه التّشريعات تُبرز تداخل الحقوق والواجبات بين الأجيال والأقارب، ذلك يدعم التّوازن الأُسريّ ويُعزز مبادئ البرّ والإحسان الّتي تُعدّ أساسًا للعلاقات في العقيدة التّوحيديّة-الدّرزيّة.
* * *
للاستزادة والتّوسُّع:
- القرآن الكريم.
- تقيّ الدّين، حليم. الأحوال الشّخصيّة عند الدّروز وأوجه التّباين مع السّنّة والشّيعة. ط. 2؛ بيروت: د. ن.، 2007.
- حتّي، فيليب. الدّروز: دراسة تاريخيّة ودينيّة. نيويورك: مطبعة جامعة كولومبيا، 1928.
- أبو حمدان، حليم. أركان الإيمان الدّرزيّ. بيروت: دار الطّليعة، 1980.
- أبو شقرا، محمّد. قانون الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة: دراسة مقارنة. بيروت: دار النّهضة العربيّة، 2005.
- أبي المنى، سامي. الحقوق الزّوجيّة في الفقه الدّرزيّ. بيروت: دار الفكر اللّبنانيّ، 2008.
- نصر، مرسل. الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة. لندن: مؤسّسة التّراث الدّرزيّ، 2009.
- قانون الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة في إسرائيل. الفصل السّادس: “في النّفقة”، ص. 5.