الوصيّة عند الموحّدين الدّروز

تعريف عامّ

تُعدّ “الوصيّة” من الاصطلاحات ذات الطّابع الشّرعيّ والقانونيّ الّتي تحظى بأهمّيّة كبيرة في مختلف الأنظمة القانونيّة والتّقاليد الثّقافيّة. يُقصد بالوصيّة، في سياقها العامّ، تعبير الشّخص عن إرادته في توزيع ممتلكاته أو حقوقه أو تحديد أفعال معيّنة ينبغي القيام بها بعد وفاته. كما تُعدّ الوصيّة وسيلة تنظيميّة تُبيّن كيفيّة التّعامل مع ترِكَة المتوفّى بما يتّفق مع رغباته وتطلّعاته، وهي أداة تعكس الأبعاد الأخلاقيّة والدّينيّة والاجتماعيّة للفرد.

أمّا في الأنظمة القانونيّة الحديثة فتُعدّ الوصيّة وثيقةً رسميّةً أو قانونيّةً، يُعبّر فيها الفرد عن إرادته الحرّة وَفق القوانين المعمول بها، وتُعدّ ملزِمة بعد وفاته، طالما استوفت الشّروط الشّكليّة والموضوعيّة اللّازمة. بطبيعة الحال، تختلف هذه القوانين من نظام إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، لكنّها جميعها تهدف إلى توفير إطار قانونيّ ينظّم تنفيذ رغبات الموصي بطريقة عادلة وقانونيّة.

الوصيّة عند الموحّدين الدّروز

ورد تعريف الوصيّة في قانون الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة بأنّها “تمليك مُضاف إلى ما بعد الموت بطريق التّبرّع”.[1] من هنا فإنّ صيغة الوصيّة لا تكون منجَزة لأنّ آثارها تتأخّر إلى ما بعد موت الموصي، بل مضافة إلى المستقبل أو معلّقة. هذا التّعريف يماثل نظيره الوارد في المذاهب الإسلاميّة الخمسة: الحنفيّ، المالكيّ، الشّافعيّ، الحنبليّ والجعفريّ. تقرّر جواز الوصيّة استحسانًا لحاجة النّاس إليها، وشرعًا بالآية القرآنيّة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 180).

تُعدّ الوصيّة من الأحكام الهامّة في نظام الأحوال الشّخصيّة الخاصّ بالموحّدين الدّروز، وتتميّز بأنّها وليدة حرّيّة شخصيّة وفكر متطوّر، وقد اكتسبت طابعًا مميّزًا نتيجة ارتباطها بتقاليدهم الاجتماعيّة واجتهاداتهم المذهبيّة. منذ القدم، اعتمد الموحّدون الوصيّةَ بوصفها وسيلةً قانونيّةً لتوزيع التّرِكَة، سواءٌ بالكامل أو بجزء منها، ولصالح وارث أو غير وارث. وقد أقرّ العثمانيّون، في فترة حكمهم، بهذا التّقليد، ومنحوا القضاة الدّروز صلاحيّة البتّ في القضايا المتعلّقة بالوصايا، مؤكّدين على استقلاليّة الطّائفة في إدارة شؤونها الشّرعيّة.

في عام 1308 هـ. (1906 م.) حصل خلاف في قضاء حاصبيّا بين قاضي المذهب الدّرزيّ وقاضي الشّرع السّنّيّ، بشأن صلاحيّة النّظر في وصايا الموحّدين. لحسم هذا النّزاع، أصدر شيخ الإسلام تعليمات واضحة للقاضي السّنّيّ، أكّد فيها أنّ القواعد القديمة المعمول بها تمنح القضاء الدّرزيّ وحده صلاحيّة النّظر في قضايا الزّواج والطّلاق والوصايا. وقد نصّت التّعليمات على عدم السّماح بأيّ تدخّل يناقض هذا “التّقليد القانونيّ”.

لاحقًا، خلال فترة الانتداب الفرنسيّ، تجدّدت هذه النّزاعات، ورُفعت القضيّة إلى محكمة حلّ الخلافات. أكّد المفوّض السّامي الفرنسيّ، في كتاب رسميّ عام 1937 م.، استمرار الالتزام بالتّعليمات الصّادرة في العهد العثمانيّ، مشدّدًا على أنّ الفصل في قضايا الوصايا والزّواج والوقف يندرج ضمن اختصاص القضاء الدّرزيّ فقط. ومع مرور الزّمن، أصبحت الأحوال الشّخصيّة عند الموحّدين الدّروز جزءًا من كيانهم الاجتماعيّ، وشهدت تطويرًا قانونيًّا يهدف إلى توحيد التّقاليد والاجتهادات المذهبيّة ضمن إطار حديث.

في 24 شباط 1948 م. صدر نظام الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة الّذي يُعدّ علامة فارقة في تنظيم الحقوق والواجبات المتعلّقة بشؤون العائلة والمجتمع. شمل هذا النّظام أحكامًا تنظيميّة تفصيليّة في مجالات متعدّدة، منها: الزّواج، الطّلاق، النّفقة، الحضانة، الوصاية، الوصيّة وغيرها. فيما يتعلّق بالوصيّة، أكّد النّظام على حقوق الموحّدين في تنظيمها وَفقًا لتقاليدهم، مع تحديد إطار قانونيّ حديث يضمن حماية الحقوق ومنع النّزاعات. يجسّد هذا التّطوّر القانونيّ توازنًا بين الحفاظ على إرث الطّائفة الدّينيّ والاجتماعيّ ومواكبة العصر، من خلال وضع قواعد قانونيّة حديثة تضمن استقرار المجتمع الدّرزيّ واحترام تقاليده.

شروط الوصيّة

تتطلّب الوصيّة، وَفق مذهب التّوحيد الدّرزيّ، توافر شروط محدّدة في الموصي، والموصى له، والموصى به، لضمان صحّتها واتّساقها مع أحكام المذهب. يمكننا تلخيص الشّروط بما يلي:

الموصي: يشترط في الموصي أن يكون بالغًا، عاقلًا، مختارًا وأهلًا للتبرع، وذلك وفق المادّة (146) من قانون الأحوال الشّخصيّة الدّرزيّة. لا تُقبل الوصيّة من السّفيه أو المحجور عليه بسبب غفلة أو جنون؛ لأنّ التّبرّعات الصّادرة عن هؤلاء تُعدّ باطلة. يُستثنى من ذلك القاصر؛ إذ لا تُقبل وصيّته إلّا إذا بلغ سنّ الرّشد، المحدّدة بثماني عشرة سنة، فيصبح قادرًا على الإيصاء والتّبرّع؛

الموصى له: يتميّز نظام الوصيّة لدى الموحّدين الدّروز بالمرونة، حيث يُسمح بأن يكون الموصى له وارثًا أو غير وارث، بخلاف البعض من المذاهب الإسلاميّة الأُخرى. كما أنّ اختلاف الدّين أو الملّة لا يمنع صحّة الوصيّة، وفق المادّة (151). وتُعدّ الوصيّة صحيحة إذا كان الموصى له حاضرًا وقت الإيصاء، سواءٌ بشكل تحقّق فعليّ أو بشكل تقديريّ. وتشمل الوصيّة، أيضًا، الحمل الموجود أو المتوقّع مستقبلًا. يمكن توجيه الوصيّة إلى سُبل الخير العامّة، مثل: الفقراء، المساجد، الجمعيّات الخيريّة والأوقاف، بما يتّفق مع المادّة (150)، الّتي تؤكّد أنّ الوصيّة تجوز في سُبل الخير كافّةً. ومع ذلك، تُلغى الوصيّة إذا ثبُت أنّ الموصى له قد أقدم عمدًا على قتل الموصي، في حين يظلّ القتل بغير عمد بلا تأثير في صحّتها.

الموصى به: يُشترط أن يكون الموصى به قابلًا للتّمليك بعد وفاة الموصي، سواءٌ كان عينًا أو منفعة، وسواءٌ كان موجودًا وقت الإيصاء أو معدومًا، مثل: الإيصاء بثمار بستان مستقبليّة. يتيح مذهب التّوحيد توزيع الحقوق، مثل: الإيصاء برقبة العقار لشخص وبحقّ الانتفاع لشخص آخر. ومع ذلك، لا يجوز الإيصاء بما يخالف أحكام الشّرع، مثل: الخمر أو الميتة.

تُبرز هذه الشّروط والضّوابط التّوازن بين حماية حقوق الأطراف وضمان اتّساق الوصيّة مع المبادئ الدّينيّة والاجتماعيّة، ما يعكس الطّبيعة الشّاملة والمتوازنة لنظام الوصيّة لدى الموحّدين “الدّروز”.

أمّا تثبيت الوصيّة فهو واجب ضروريّ شرعًا وقانونًا، فتُسجَّل الوصيّة رسميًّا في سجلّ القاضي؛ إذ يُلزم الموصي بتوقيع نصّ الوصيّة أمام القاضي وشهودها أو شاهدَين، على الأقلّ، من بينهم. يوقّع الشّهود إلى جانب الموصي في السّجلّ الرّسميّ، ما يُضفي على المعاملة الطّابع القانونيّ والشّرعيّ. بعد ذلك، يوثّق القاضي المعاملة ويصدّق عليها، مع تدوين عبارة التّصديق على النّسخة المحفوظة لدى الموصي، بما يضمن شرعيّة الوصيّة واستيفاءها للشّروط الشّكليّة والإجرائيّة المطلوبة.[2]

الرّجوع عن الوصية وبُطلانها

يُعدّ الرّجوع عن الوصيّة حقًّا أصيلًا للموصي؛ إذ يُمكنه تعديل وصيّته أو إلغاؤها كلّيًّا أو جزئيًّا، وَفقًا لإرادته. يمكن أن يتمّ له ذلك بشكل صريح وخطّيّ، كما هي صيغة الوصيّة الأصليّة، فكانت العادة القديمة أن يحرّر الموصي وثيقة مكتوبة توضّح التّعديلات على الوصيّة، سواءٌ بإضافة ملحق يُفسّر ما ورد فيها، أو بتغيير الموصى به لشخص آخر، أو بحرمان أحد الموصى لهم من حقّ معيّن. كما يمكن أن يكون الرّجوع عنها دلالةً، كأن يقوم الموصي ببيع ما أوصى به قبل وفاته، ما يُعدّ إشارة واضحة إلى إلغاء وصيّته في هذا الشّأن. أمّا اليوم، في ظلّ التّنظيم القانونيّ للقضاء وقوانين الأحوال الشّخصيّة، بات من الضّروريّ أن يُبادر الموصي، عند رغبته في الرّجوع عن وصيّته الأصليّة، كلّيًّا أو جزئيًّا، إلى إعداد وصيّة جديدة تلغي الوصيّة القديمة. يُعدّ هذا الإجراء ذو أهمّيّة بالغة من حيث أنّه يتجنّب التّناقض بين شروط الوصيّة الأصلية وأحكامها وتلك الواردة في الملحق الإضافيّ، ما يُجنّب الأطراف المعنيّة الحاجة إلى اللّجوء إلى القضاء لتفسير هذه الأحكام أو الفصل في تعارضها.

أمّا إبطال الوصيّة فيكون بطلب من أصحاب المصلحة وبحكم من القضاء، ويتحقّق في ثلاث حالات رئيسة حدّدها الشّرع والقانون: أوّلها، إذا ألغى الموصي وصيّته أو استبدلها بأُخرى أو كتب وصيّة أحدث تاريخًا. ثانيها، إذا كانت الوصيّة تنطوي على معصية، أو إذا كان الدّافع إليها منافيًا لمقاصد الشّرع، ما يجعلها فاقدة للأساس الأخلاقيّ والشّرعيّ. وثالثها، إذا هلك الموصى به قبل تنفيذ الوصيّة. في هذه الحالة، إذا هلك الموصى به بغير تعدٍّ من أحد الورثة، فلا يُطالب بضمان، أمّا إذا استُهلك الموصى به عمدًا، فيُصبح المستهلك ضامنًا لما استهلكه. تُظهر هذه الأحكام مدى المرونة والتّوازن في تنظيم الوصيّة، حيث تراعي حقوق الموصي ومقاصد الشّرع في الوقت ذاته.

إذًا، تُمثّل الوصيّة في مذهب التّوحيد الدّرزيّ مظهرًا من مظاهر التّوازن بين التّقاليد الرّاسخة والتّطوّر القانونيّ الحديث، ما يعكس عمق التّراث الدّينيّ والاجتماعيّ الخاصّ بالطّائفة، وحرصها على الحفاظ على هُويّة متجذّرة مع الاستجابة لمتطلّبات العصر.

فيما يلي نموذج للوصيّة عند الموحّدين الدّروز؛ وصيّة سيّدنا الشّيخ أبي يوسف أمين طريف، رضي الله عنه، بخطّ يده، من عام 1985 م.:[3]

_______________________________________________________

[1] قانون الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة في إسرائيل. الفصل الثّامن عشر: “في الوصيّة والإرث”، المادّة 145، ص. 19.

[2] قانون الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة في إسرائيل. الفصل الثّامن عشر: “في الوصيّة والإرث”، المادّة 162، ص. 20.

[3] لنصّ الوثيقة مطبوعًا راجع موقع فضيلة سيّدنا الشّيخ: https://sheikh-ameen.com

***

للاستزادة والتّوسُّع:

  1. نصر، مرسل؛ تقيّ الدّين، حليم. الوصيّة والميراث عند الموحّدين الدّروز. بيروت: المجلس الدّرزيّ للبحوث والإنماء، 1983.
  2. نصر، مرسل. الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة. لندن: مؤسّسة التّراث الدّرزيّ، 2009.
  3. تقيّ الدّين، حليم. الأحوال الشّخصيّة عند الدّروز وأوجه التّباين مع السّنّة والشّيعة. ط. 2؛ بيروت: د. ن.، 2007.
  4. قانون الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة في إسرائيل. الفصل الثّامن عشر: “في الوصيّة والإرث”، ص. 19-21.

מבט על

הדרוזים בישראל

ההתיישבות הדרוזית בישראל נחשבת לשלישית בגודלה, מבחינת מספר התושבים, בעולם כולו. הדרוזים בישראל (בני דת הייחוד) מהווים עדה דתית מגובשת, המונה כ- 147 אלף בני אדם, שפתם הינה ערבית ותרבותם ערבית-ייחודית (מונותאיסטית). הדת הדרוזית מוכרת באופן רשמי, על ידי מדינת ישראל, מאז שנת 1957 כישות אחת בעלת בתי משפט והנהגה רוחנית משלה. הדרוזים בישראל חיים כיום בתוך עשרים ושניים כפרים הנפרשים בגליל, בכרמל וברמת הגולן. שני היישובים הדרוזים הגדולים ביותר מבחינת מספר תושבים הם ירכא (16.9 אלף תושבים) ודלית אל-כרמל (17.1 אלף תושבים).

0 K

דרוזים בישראל

0 +

תושבים בדאלית אלכרמל, היישוב הכי גדול בישראל

0

סטודנטים דרוזים בשנת הלימודים 2019/2020 במוסדות להשכלה גבוהה