جبل السُّمّاق، يُعرف كذلك بالجبل الأعلى، هو من أشدّ جبال سورية وعورةً وأكثرها صعوبةً في التّنقُّل، يتربّع إلى شمال إدلب، في منطقة ريف حلب على مساحة 230 كيلومترًا مربّعًا، وتبلغ أعلى قمّة فيه حوالي 657 مترًا، وهو يجاور جبلَي باريشا[1] ودويلة[2] فيُشكّل معهما ما يُعرف بجبال حارم.
امتدّت بقعة هذا الجبل قديمًا إلى مساحة جغرافيّة واسعة شكّلت كتلة كلسيّة كبيرة، من غرب حلب إلى أنطاكية والرّيحانيّة شمالًا وجبل الزّاوية جنوبًا، ويبدو أنّ حدوده القديمة كانت: من الشّمال وادي عفرين وسهل العَمْق (أنطاكية)، ومن الغرب مجرى العاصي، ومن الجنوب سهل إدلب ومنخفض الرّوج، ومن الشّرق سهل حلب.
كان جبل السُّمّاق، ولم يزل، موطنًا للموحّدين الدّروز، فإنّ فيه قرى درزيّة يسكنها الموحّدون منذ زمن الدّعوة، وهو يُعدّ من المناطق التّوحيديّة الأكثر قداسة وأهمّيّة في تاريخ الدّروز. أمّا القرى الدّرزيّة المنتشرة حول جبل السُّمّاق الّتي يسكنها موحّدون دروز فهي: قلب لوزة، بنابل، بشندلنتي، كفركيلا، عبريتا، جدعين، بشندلايا، كفرمارس، تلتيتا، كفرمو، الدّوير، عربشين، كفربني، كفتين، بيرة كفتين ومعرّة الإخوان.[3] ومن قرى الجبل القديمة الّتي يرد ذكرها في الأصول التّوحيديّة نذكر ما يلي: كفر نجل؛ قرية الدّاعي الكبير الأمير لاحق (تقع في منخفض الرّوج)؛ بسنقول (قرية الدّاعي الكبير سُكين، وهي مجاورة لكفرنجل)، صرفود، دادحين، وحتان وتقع جميعها في جبل باريشا. أمّا قراه الأُخرى فهي كفتين، مرتحوان (تسمّى اليوم معرّة الإخوان) كفر بني، البيرة، كفرمارس، عرشین، بنابل، قلب لوزة، بشند لنتي، كفركيلا، تلتيتا (تسمّى اليوم تلّ تبنة)، حلّي، ككو (تسمّى اليوم عين الجاج)، علاثا، الدّوير، جدعين، وعبريتا. ويجدر الذِّكر أنّ هذه المنطقة لم تمثّل سوى الجزء الأصغر من أجزاء سورية الشّماليّة الّتي انتشرت فيها دعوة التّوحيد.
يعيش سكّان جبل السُّمّاق اليوم حياة ريفيّة بسيطة جدًّا، لم تخالطها ملامح الحداثة لا من قريب ولا من بعيد، وهي حياة قاسية وصعبة في الوقت نفسه، فالأهالي يعتمدون على زراعة القمح والزّيتون والعمل اليدويّ، هذا هو مصدر رزقهم المتوارث منذ قديم الزّمان. ويُعرف الجبل بصعوبة المواصلات فيه؛ إذ لم تتّصل أكثر قراه بشبكة الطُّرق المُعبّدة إلّا في أواخر ستّينيّات القرن الماضي، علاوةً على فقره وضآلة محاصيله الزّراعيّة، أضف إلى ذلك معاناة الأهالي في الحصول على مياه الشُّرب واستجرارها إلى منازلهم، بسبب انعدام مشاريع توفير المياه في قُراهم.
وقد وصف المنطقة وحياة سكّانها صاحب نهر الذّهب في تاريخ حلب، في معرض حديثه عن “الدّروز”، فقال إنّ:
“مساكنهم من ولاية حلب فهي بضع قرى في الجبل الأعلى المعروف بجبل السُّمّاق من أعمال قضاء حارم وهي قرية بنابل وقلب لوزة وبشندلاية وجدعين وعبريتا وككو ووحله وكفر مالس وتل تيته. جميع سكّان هذه القرى من طائفة الدّروز ومنهم جماعة يسكنون مع المسلمين في قرية كفر كيله وبشندلنتة ودير سلونة وعددهم في هذه القرى على وجه التّقريب لا يزيد على خمسمائة نفَس ما بين ذكر وأنثى، وهم أهل جدّ وكدّ واقتصاد بالمعيشة ومعرفة بالزّراعة وسياسة المواشي، إلّا أنّهم متأخّرون في الفنون والمعارف، ضعفاء النّفوذ في تلك الناحية”.[4]
شهدت منطقة جبل السُّمّاق ومحيطها مهد المسيحيّة الأولى، بعد ظهورها في فلسطين، حين انطلق دعاة الدّين الجديد يبثّون رسالته، وكانت انطاكيةـ آنذاك، ملاذًا لهم. وانتشر الدّين المسيحيّ في هذه المنطقة فتحوّلت المعابد الوثنيّة إلى كنائس، ولم تزل المباني والزّخرفة والأديرة في منطقة جبل السُّمّاق شاهدًا حاضرًا على تلك الحقبة.
وكانت هذه المنطقة موطنًا رئيسًا للعشائر العربيّة الّتي تشكّلت منها طائفة الموحّدين الدّروز في بلاد الشّام؛ من هؤلاء مَن ظلّ مستقرًّا في موطنه فكوَّن مشيخة جبل السُّمّاق التّوحيديّة، ومنهم مَن نزح عنها على فترات متوالية واستقرّ في مناطق مختلفة، خاصّةً منطقة جبل لبنان الّتي تمركزت فيها قوّة الطّائفة إثر نزوح الأُسرة اللّخميّة-التّنّوخيّة إليها.[5] وحين انتشرت الدّعوة إلى مذهب التّوحيد في شمال سورية وشرقها، بداية القرن الميلاديّ الحادي عشر، اضطرّت حملات الاضطهاد الكثيرة مَن صمد في الحفاظ على معتقده إلى أن يقصد الجبل الأعلى (السُّمّاق) ليكون له مأمنًا من المعتدين. وبعد أن استجاب لنداء الدّعوة الكثيرون من ولاية حلب ومناطق أُخرى، استئناسًا بوجود الأمير رافع بن أبي اللّيل في تلك المنطقة، أصبح الموحّدون في جبل السّمّاق يشكّلون تهديدًا لنفوذ البيزنطيّين والفاطميّين (الخليفة الظّاهر) والمرداسيّين (صالح بن مرداس)، فقرّر نيطا قَطَبان أنطاكية، بالتّعاون من صالح بن مرداس، ضرب الموحّدين في جبل السُّمّاق. وقد أورَد ابن العديم حادثة جبل السُّمّاق في معرض حديثه عن “حلب والمرداسيّون؛ نصر بن صالح”، حيث قال:
“…اجتمع بجبل السّمّاق، ويُعرف اليوم بجبل الأربعين، قوم يُعرفون بالدّرزيّة منسوبون إلى رجُل خيّاط أعجميّ، وجاهروا بمذهبهم… وتحصّنوا في مغاير شاهقة على العاصي، وانضوى إليهم خلق من فلّاحي حلب، وطمعوا بالاستيلاء على البلاد. فخرج إليهم نقيطا قَطَبان أنطاكية، وحاصرهم في المغاير، ودخّن عليهم، وساعده على ذلك نصر بن صالح صاحب حلب، ثمّ التمسوا الأمان بعد اثنين وعشرين يومًا، فأخرجوهم بالأمان، وقبضوا على دعاتهم وقتلوهم، وذلك في شهر ربيع الأوّل من سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة”.[6]
لم يغب ذِكر جبل السُّمّاق عن الأصول التّوحيديّة حيث وُصف بالجبل الطّاهر الأنور، جبل أهل الفضل والصّدق والوفا، ومعاقد العزّ والصّبر والصّفا. ووصفه ابن كثير فقال: “جبل يقع غرب حلب، يشتمل على قرى وقلاع، ويكثر فيه نبات السُّمّاق”؛[7] ومن هنا سبب تسميته اللّغويّة وهو كثرة انتشار نبتة السّمّاق في أراضيه. وجاء في معجم البلدان: “جبل السُّمّاق بلفظ السُّمّاق الّذي يُطبخ به: هو جبل عظيم من أعمال حلب الغربيّة، يشتمل على مدن كثيرة وقرى وقلاع، عامّتها للإسماعيليّة المُلحدة، وأكثرهم في طاعة صاحب حلب، وفيه بساتين ومزارع كلّها عِذْي[8]، والمياه الجارية به قليلة إلّا ما كان من عيون ليست بالكثيرة في مواضع مخصوصة، ولذلك تنبت فيه جميع أشجار الفواكه وغيرها حتّى المشمش والقطن والسّمسم وغير ذلك، وقيل: إنّه سُمّي بذلك لكثرة ما ينبت فيه من السُّمّاق، وقد ذكره شاعر حلبيّ عصريّ يُقال له عيسى بن سعدان… فقال:
“وليلة بتّ مسروق الكرى أرقا، ولهان أجمع بين البرء والخبل
حتّى إذا نار ليلى نام موقدها، وأنكر الكلب أهليه من الوهل
طرقتها ونجوم اللّيل مطرقة، وحلت عنها، وصبغ اللّيل لم يحل
عهدي بها في رواق الصّبح لامعة، تلوي ضفائر ذاك الفاحم الرّجل
وقولها وشعاع الشّمس منخرط: حُيّيت يا جبل السُّمّاق من جبل
يا حبّذا التّلعات الخضر من حلب وحبّذا طلل بالسّفح من طلل
يا ساكني البلد الأقصى عسى نفس، من سفح جوشن، يطفي لاعج الغلل
طال المقام، فوا شوقا إلى وطن بين الأحصّ وبين الصّحصح الرّمل!””.[9]
________________________________________
[1] جبل باريشا يقع ضمن الجبال السّبعة في وسط الكتلة الكلسيّة السّوريّة، ممتدًّا على مساحة 230 كيلومترًا مربّعًا وارتفاع وسطيّ يتراوح بين 400-500 متر. يحدّه شمالًا سهل العَمْق – أنطاكية، وغربًا جبل الأعلى وسهل الشّلف، وجنوبًا جبل الزّاوية، وشرقًا جبل الأعلى وسهل جلقيس في إدلب.
[2] يقع ضمن الجبال السّبعة في القسم الأوسط من الكتلة الكلسيّة، ويمتدّ شمال-غرب إدلب، قُرب مدينة كفرتخاريم.
[3] سميح ناطور، “جبل السّمّاق”، الموسوعة التّوحيديّة، ج. 3 (2011)، ص. 44-45.
[4] كامل الغزيّ، نهر الذّهب في تاريخ حلب (حلب: المطبعة المارونيّة، د. ت.) ج. 1، ص. 171-172.
[5] يوسف سليم الدّبيسي، أهل التّوحيد “الدّروز” (بيروت: المركز الثّقافيّ اللّبنانيّ، 2006)، ج. 4، ص. 119-123.
[6] ابن العديم، زبدة الحلب من تاريخ حلب (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1996)، ص. 140.
[7] ابن كثير، البداية والنّهاية (د. م.: هجر، 1997).
[8] الزَّرع الّذي لا يسقيه إلّا المطر.
[9] ياقوت الحمويّ، معجم البلدان (بيروت: دار صادر، د. ت.)، ج. 2، ص. 102.
***
للاستزادة والتّوسُّع:
- الأشرفاني، محمّد بن عبد المالك. عمدة العارفين في قصص النّبيّين والأمم السّالفين. د. م.: د. ن.، ج. 3، د. ت.، ص. 727.
- الحمويّ، ياقوت. معجم البلدان. بيروت: دار صادر، ج. 2، د. ت.، ص. 102.
- سيف الدّين، رياض. جبل السّمّاق جذور وآفاق. د. م.: دار أمل الجديدة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، 2022.
- الدّبيسي، يوسف سليم. أهل التّوحيد “الدّروز”. بيروت: المركز الثّقافيّ اللّبنانيّ، ج. 4، 2006.
- الصّغيّر، سعيد. بنو معروف في التّاريخ. دمشق: دار علاء الدّين، 2002.
- ابن العديم، زبدة الحلب من تاريخ حلب. بيروت: دار الكتب العلميّة، 1996.
- أبو عزّ الدّين، نجلاء. الدّروز في التّاريخ. شفاعمرو-الرامة: منشورات العرفان، د. ت.، ص. 166؛ 170.
- الغزيّ، كامل. نهر الذّهب في تاريخ حلب. حلب: المطبعة المارونيّة، ج. 1، د. ت..
- غنّام، رياض. بشير قاسم جنبلاط. بيروت: مؤسّسة التّراث الدّرزيّ، 2011، 108-111.
- القاضي، نبيه. تاريخ دعوة الموحّدين الدّروز. د. م.: دار كيوان، 2009، ص. 132.
- ابن كثير، البداية والنّهاية. تحقيق: عبدالله بن عبد المحسن التّركيّ. د. م.: هجر، 1997.
- ناطور، سميح. الموسوعة التّوحيديّة. سميح ناطور (تحرير)، ج. 3 (2011)، ص. 45.
- ناطور، سميح. “محطّات في تاريخ الدّروز خلال ألف سنة”. العمامة 144 (2019، كانون ثانٍ).