د. نجيب العسراويّ

الشّيخ الدّكتور نجيب سعد الدّين العسراويّ (1891-1987 م.)؛ من أبرز المفكّرين والوجهاء الدّروز اللّبنانيّين، عُرف بإسهاماته في الفكر والصّحافة والأدب، وكان له دَور محوريّ في نشر الثّقافة وتعزيز الهويّة الدّرزيّة في لبنان والمهجر.

وُلد في قرية بتاتر، في الأوّل من كانون ثانٍ عام 1891 م.، ونشأ في بيئة علميّة وثقافيّة أثّرت في مسيرته الفكريّة. انتقلت عائلته إلى بيروت وهو لم يزل صغير السّنّ، حيث التحق بالمدرسة الإسلاميّة العثمانيّة[1]، ثمّ تابع دراسته في الحقوق، تحت إشراف العلّامة القانونيّ المصريّ الشّيخ أحمد العارف، فكانت خطوةً أسهمت في بلورة رؤيته القانونيّة والسّياسيّة.

في إطار سعيه إلى تعميق معارفه الأكاديميّة، انتقل العسراويّ إلى الآستانة، حيث نال درجة دكتوراة في الفلسفة من جامعتها، متمكّنًا من تطوير منهج فكريّ متماسك أثرى كتاباته السّياسيّة والاجتماعيّة لاحقًا. ولم يقتصر تكوينه العلميّ على الفلسفة والقانون، بل انخرط في عالم الصّحافة أيضًا؛ فعاد إلى بلده، لبنان، ودرس الصّحافة على يد الشّيخ رشيد عطيّة، وهو واحد من أبرز الصّحافيّين في تلك الفترة. وانطلق، في عام 1914 م.، في مسيرته الصّحافيّة بالكتابة في جريدة “الصّفاء”، حيث أخذ يتناول قضايا فكريّة وسياسيّة واجتماعيّة بارزة، مع تركيز خاصّ على قضايا الهويّة الثّقافيّة العربيّة ودَور الطّائفة الدّرزيّة في المشهد السّياسيّ في لبنان والمشرق العربيّ.

انتقل د. نجيب العسراويّ إلى جبل الدّروز أواخر عام 1915 م.، واستقرّ في قرية الصّورة وأسّس فيها مدرسة. ثمّ تابع تنقّلاته، فسار إلى نجران ومنها إلى ملح، حيث رافق الزّعيم مصطفى بك الأطرش، شيخ امتان، الّذي كان في خلاف مع الدّولة العثمانيّة بسبب اعدامها ابن عمّه، ذوقان بك، والد سلطان باشا الأطرش. وسعيًا لاسترضائه، أقامت السُّلطات العثمانيّة احتفالًا في حديقة البلديّة، دعت إليه زعماء الدّروز، غير أنّ مصطفى بك امتنع عن الحضور، وأناب عنه د. نجيب العسراويّ والمرحوم عليّ عبيد. وفي أعقاب هذا الاجتماع، مُنح د. العسراويّ الوسام العثمانيّ من رتبة ضابط، إلى جانب لقب بك.

ولمّا اندلعت الثّورة العربيّة الكبرى (1916 م.)، بقيادة الشّريف حسين، أعلن العسراويّ تأييده المُطلق لها، وانضمّ إلى صفوفها مرافقًا الأمير فيصلًا، وخاض معه عددًا من معاركها. وبحُكم انخراط الكولونيل لورنس في القضايا العربيّة، أوكل الشّريف حسين العسراويَّ تمثيلَه إلى جانبه، واضعًا فيه ثقته الكاملة. وقد شهد لورنس بشجاعته وحنكته السّياسيّة، ما دفع الشّريف حسين إلى منحه وسام الثّورة العربيّة المذهَّب، تقديرًا لدوره، كما منحته الدّولة البريطانيّة وسامًا رفيعًا. أمّا آخر الأوسمة الّتي نالها العسراويّ فكان الوسام الدَّوليّ المذهَّب الّذي حظي به لاحقًا، في أثناء إقامته في البرازيل.

إثر الحرب العالميّة الأولى، وفي أعقاب توقيع اتّفاقيّة “سايكس-بيكو”، بين بريطانيا وفرنسا، وتغيُّر موازين القوى في الشّرق الأوسط الّذي أدّى إلى زعزعة مركزه؛ غادر العسراويّ دمشق، في آذار عام 1920 م.، متّجهًا إلى البرازيل، في أمريكا الجنوبيّة، باحثًا عن آفاق جديدة تُتيح له الاستمرار في عطائه الفكريّ والثّقافيّ، إلى جانب دعم الجالية الدّرزيّة هناك. وإذ وُلد في أُسرة درزيّة متوسّطة الدّخل، نشأ في بيئة تُوازن بين التّقاليد المتجذّرة والانفتاح على التّعليم العصريّ، وهو ما انعكس على منهجه الفكريّ، بعدئذٍ، فقد كرّس جهوده لتوحيد الجالية الدّرزيّة في المهجر وترسيخ الفكر التّوحيديّ في أوساط المغتربين، مُدركًا أهمّيّة ربطهم بتراثهم الثّقافيّ وهويّتهم الرّوحانيّة. وفي كنف غربته، وضع أُسس حياته الأُسريّة، فتزوّج جميلة، ابنة محمود فارس العسراويّ، وأنجبا عارفًا، وجميلًا، وعادلًا، ووردة، وسلمى، فكان له في المهجر امتدادٌ عائليّ يعزّز صلته بجذوره، على بُعد المسافات.

في إطار مشروعه الثّقافيّ والاجتماعيّ الطَّموح، انخرط العسراويّ في الصّحافة والتّجارة، موازنًا بين التزاماته المهنيّة ودوره الفاعل في إثراء حياة الجالية الدّرزيّة الثّقافيّة والاجتماعيّة، حتّى أصبح من أبرز قادتها. وأسهم في تحرير جريدة “العاصمة”، ثمّ تولّى إدارتها، بعد شرائها من صاحبها، منير اللّبابيدي، وأعاد إصدارها تحت اسم “الإصلاح”، بعد أن نقل مقرّها إلى مدينة أوليفيرا في ولاية ميناس، حيث تمركزت أنشطته الاقتصاديّة والفكريّة. وفي 19 كانون ثانٍ عام 1921 م.، صدر العدد الأوّل من الجريدة بحلّتها الجديدة، لتُصبح منبرًا بارزًا يُعنى بشؤون الجالية الدّرزيّة وقضايا الفكر والتّوحيد.[2]

وفي الوقت نفسه، عكف العسراويّ على تأليف مجموعة من الكتب والإصدارات الّتي تتناول القضايا الفكريّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، سواءٌ في لبنان أو في المغترب البرازيليّ. من بين أبرز مؤلّفاته:

  • كتاب الإسلام في أميركا الّذي جاء ردًّا على كتاب الطّلاق وتعدُّد الزّوجات، لمؤلّفه إلياس مسرّة. وقد كتب العسراويّ هذا المؤلَّف باللّغة البرتغاليّة؛
  • كتاب ورَد من البرازيل الّذي جاء ردًّا على د. سامي نسيب مكارم في مؤلَّفه أضواء على مسلك التّوحيد؛
  • كتاب المذهب التّوحيديّ الدّرزيّ الّذي يتناول بالدّراسة والتّحليل أصول المذهب التّوحيديّ؛
  • معجم تعالوا نحكي عربي، وهو معجم برازيليّ خاصّ لتعليم اللّغة العربيّة لغير النّاطقين بها؛
  • كتاب الدّروزيّة، باللّغة البرتغاليّة، وهو يهدف إلى تعريف المجتمع البرازيليّ والدّروز المغتربين بفكر الموحّدين الدّروز ومبادئهم، موضّحًا الجوانب الرّوحانيّة والاجتماعيّة لعقيدتهم.

أمّا كتبه غير المطبوعة، فهي: تحرير العقل وطلاق الفكر، وهو مؤلَّف فلسفيّ وفكريّ، و-تاريخ العائلة العسراويّة الّذي يؤرّخ لنسب العائلة ومحطّاتها البارزة، إضافةً إلى أعلام الدّروز الّذي يستعرض سيَر الشّخصيّات الدرزيّة المؤثّرة عبر التّاريخ.

ولم يقتصر دور العسراويّ على الصِّحافة والأدب وحسب، بل امتدّ إلى المجال الاجتماعيّ؛ إذ اضطلع بدور محوريّ في تأسيس المؤسّسات الّتي عزّزت حضور الجالية الدّرزيّة في المهجر. فكان من أبرز إسهاماته: تأسيس البيت الدّرزيّ البرازيليّ والرّابطة الخيريّة الدرزيّة اللّتين لعبتا دورًا أساسيًّا في توطيد تماسك أبناء الطّائفة الاجتماعيّ وربطهم بتراثهم الثّقافيّ والدّينيّ، وإنشاء خلوة للصّلاة ومدفن للجالية الدّرزيّة. إلى جانب ذلك، كان العسراويّ عضوًا في المجمع العلميّ البرازيليّ، ورئيسًا للرّابطة الخيريّة الدّرزيّة الّتي أسّسها، كما شغل منصب أمين الشّؤون العربيّة في المعهد البرازيليّ للثّقافة، ونائبًا لمشيخة العقل في الاتّحاد البرازيليّ، مسهمًا بذلك في ترسيخ الدّور الثقافيّ والفكريّ للطّائفة الدّرزيّة في المستويَين الاجتماعيّ والعلميّ.[3]

إلى جانب مكانته المرموقة في المجتمع اللّبنانيّ، طُرحت مبادرة لتعيين العسراويّ في منصب مشيخة العقل، وهو الموقع الرّوحانيّ الأرفع لدى الطّائفة الدّرزيّة في لبنان، الّذي يتطلّب حكمة عميقة وخبرة واسعة. وقد جاءت هذه المبادرة ثمرة جهود مشتركة قادتها شخصيّات وقيادات درزيّة بارزة، مدعومة من زعماء روحانيّين وسياسيّين رأوا فيه شخصيّة قادرة على قيادة الطّائفة في مرحلة دقيقة من تاريخها. وقد عكست هذه المبادرة تطلّعاته إلى تحسين الوضع الرّوحانيّ والاجتماعيّ للدّروز في لبنان، وتعزيز أواصر الحوار والتّعاون بين مختلف الطّوائف. كما أنّ هذا المنصب الرّفيع يتطلّب دراية عميقة بقضايا البلد المعقّدة، فضلًا عن القدرة على الإسهام في تحقيق السّلام والاستقرار في المستويَين الدّينيّ والاجتماعيّ.

توفّي نجيب العسراويّ عام 1987 م.، في البرازيل حيث ووري الثّرى، وظلّ رمزًا بارزًا للجالية الدّرزيّة ودورها الثّقافيّ والاجتماعيّ هناك، بعدما أمضى عقودًا في خدمة قضاياها منذ هجرته إليها في عشرينيّات القرن الميلاديّ العشرين. وقد ترك وراءه إرثًا فكريًّا وأدبيًّا غنيًّا، يتجلّى في مؤلّفاته وإسهاماته الصّحافيّة والاجتماعيّة الّتي لم تزل شاهدة على حضوره الفكريّ ومكانته بوصفه شخصيّة أثّرت في الثّقافة العربيّة والدّرزيّة في المهجر.

من أقواله: “مسلك التّوحيد هو جوهرة غنيّة، رحِم الله من صقل هذه الجوهرة الثّمينة إلى ذروة الإيمان التّوحيديّ، إنّها تعاليم إنسانيّة راقية قديمة وحديثة”.

__________________________________________

[1] فيما بعد، أصبحت تُعرف بِاسم “الكلّيّة العثمانيّة”، وكذلك “الأزهريّة” و-“العبّاسيّة” نسبةً إلى مؤسّسها الشّيخ عبّاس الأزهريّ.

[2] محمّد خير رمضان يوسف، تكملة معجم المؤلّفين (بيروت: دار ابن حزم للطّباعة والنّشر والتّوزيع، 1997)، ص. 606.

[3] يوسف، تكملة معجم المؤلّفين، ص. 606.

* * *

للاستزادة والتّوسُّع:

  1. أباظة، نزار. إتمام الأعلام. بيروت: دار صادر، 2006.
  2. الباشا، محمّد. معجم أعلام الدّروز. المختارة: الدّار التّقدّميّة، ج. 2، 1990.
  3. عابد، مفيدة. “مسلكيّة الموحّدين الدّروز”. الضّحى 27 (15 نيسان، 2015). رابط.
  4. عزّام، وليم. “الموحّدون الدّروز هاجروا وانتشروا ونجحوا”. الضّحى 1 (1 تمّوز، 2010). رابط.
  5. كيان 24، “نجيب العسراويّ: رائد الفكر والصّحافة في البرازيل”. موقع كيان 24، التّعديل الأخير: 2 تشرين ثانٍ الدّخول: 20 شباط 2025. رابط.
  6. يوسف، محمّد خير رمضان. تكملة معجم المؤلّفين. بيروت: دار ابن حزم للطّباعة والنّشر والتّوزيع، 1997.
  7. Swayd, Samy. The A to Z of the Druzes. Lanham, MD: Scarecrow Press.

מבט על

הדרוזים בישראל

ההתיישבות הדרוזית בישראל נחשבת לשלישית בגודלה, מבחינת מספר התושבים, בעולם כולו. הדרוזים בישראל (בני דת הייחוד) מהווים עדה דתית מגובשת, המונה כ- 147 אלף בני אדם, שפתם הינה ערבית ותרבותם ערבית-ייחודית (מונותאיסטית). הדת הדרוזית מוכרת באופן רשמי, על ידי מדינת ישראל, מאז שנת 1957 כישות אחת בעלת בתי משפט והנהגה רוחנית משלה. הדרוזים בישראל חיים כיום בתוך עשרים ושניים כפרים הנפרשים בגליל, בכרמל וברמת הגולן. שני היישובים הדרוזים הגדולים ביותר מבחינת מספר תושבים הם ירכא (16.9 אלף תושבים) ודלית אל-כרמל (17.1 אלף תושבים).

0 K

דרוזים בישראל

0 +

תושבים בדאלית אלכרמל, היישוב הכי גדול בישראל

0

סטודנטים דרוזים בשנת הלימודים 2019/2020 במוסדות להשכלה גבוהה