رشيد بن عليّ حسين ناصيف طليع (1877-1926 م.)، من الموحّدين الدّروز، لبنانيّ المسقط، ابن قرية جْدَيْدِة الشّوف، ينتمي إلى آل طليع الّذين يُرجَع نسبهم إلى عشيرة “ربيعة” العربيّة الّتي قدمت من ديرة حلب قُبيل عام 1120 م.،[1] وهو حفيد شيخ العقل حسن طليع[2] (1809-1887 م.). والده كان كاتبًا في إدارة متصرّفيّة جبل لبنان،[3] ووالدته دمشقيّة، من آل صخر، وكذلك زوجته الّتي هي ابنة خاله. شغل منصب أوّل رئيس حكومة مجلس المشاورين لإمارة شرق الأردنّ، عام 1921 م.، وكانت أرضَ “مَوات” سياسيّ[4] في زمان لم تستقرّ فيه الحال ومال الحُكم فيه إلى العُرف والفروقات الكبيرة، “فقانون مدنيّ، ونظام عسكريّ، وقضاء عشائريّ، وشرع، وعُرف، وقرعة، واستبداد، وشورى…”[5]. وكانت لرشيد طليع في تلك البقعة من الأرض إنجازات وإسهامات إداريّة وسياسيّة، وتأثير في مجريات الأحداث حتّى الثّورة السّوريّة الكبرى.
تلقّى علومه الابتدائيّة في مدرسة قريته، ثمّ انتقل إلى المدرسة الدّاووديّة[6] في بلدة عْبيه وبرز فيها. وصَفه زميله في الدّراسة المؤرّخ والكاتب عجاج نويهض بقوله: “كان نقطة البيكار في المدرسة، نسيج وحده في الألمعيّة، والذّكاء، ودماثة الخلق، وطيب العشرة”.[7] بعدها انتقل إلى مدرسة سوق الغرب للمرسلين البروتستانت. وفي عام 1892 م. انتسب إلى المكتب الإعداديّ في بيروت، حيث كان من المتفوّقين، ونال شهادة هذا المكتب عام 1894 م.، ومن هناك انطلق إلى الآستانة والتحق بمعهد الإدارة في مدرسة العشائر[8]، أو المدرسة الملكيّة الشّاهانيّة لإعداد موظّفي الدّولة الكبار، وفيها تخرّج عام 1900 م،[9] ورجع إلى العاصمة بيروت ليفتتح مسيرته الإداريّة فيشغل منصب مأمور مَعِيَّة لولاية سورية.[10]
شغل عدّة وظائف ومناصب رفيعة في الدّولة العثمانيّة توزّعت وفق التّسلسل الزّمنيّ التّالي: وكيل قائمقام بعلبك (عام 1901 م.)؛ قائمقام في الزّبدانيّ (عام 1902 م.)؛ قائمقام راشيّا ثمّ حاصبيّا (عام 1903 م.)؛ قائمقام في بلدة عريقة في جبل حوران (بين عامَي 1907-1909 م.)؛ قائمقام في بلدة المسميّة (حتّى 1910 م.)؛ عضو “مبعوث” في مجلس المبعوثان عن حوران (عام 1912 م.)؛ متصرّف على حوران (عام 1912 م. أيضًا)؛ متصرّف على طرابلس الشّام (عام 1914 م.)؛ ومتصرّف على اللّاذقيّة (عام 1915 م.).[11]
ثقة متبادلة وعلاقة وثيقة جمعت رشيد طليع وسلطان باشا الأطرش، قائد الثّورة السّوريّة الكبرى؛ إذ اجتمع الاثنان على رؤية سياسيّة مشتركة وتعاون مستمرّ على فضّ النّزاعات وحلّ المشكلات.[12] فبعد مواجهة خاسرة خاضها الموحّدون الدّروز ضدّ سامي باشا الفاروقيّ (حملة 1910-1911 م.)، عايشها رشيد طليع وكان، حينذاك، قائمقام في جبل الدّروز، عاد الأخير إلى متصرّفيّة حوران وتابع معالجة ذيول تلك الحملة، فكانت جهوده سببًا مباشرًا في حلّ الكثير من القضايا المعلّقة بين حوران والجبل، إلى جانب إسهامه الكبير في انتخاب الأمير شكيب أرسلان نائبًا عن حوران في مجلس المبعوثان الثّاني الّذي اجتمع للمرّة الأولى عام 1914 م. [13]
انتسب رشيد طليع إلى جمعيّة “العربيّة الفتاة”[14] السّياسيّة الّتي نشأت بين عامَي 1908-1911 م. وأصبح وريثها “حزب الاستقلال العربيّ” لاحقًا. وبعد انخراطه سياسيًّا وإداريًّا في الحركة العربيّة ترأّس، في نهايات عام 1918 ولأيّام قليلة، المجلس الوطنيّ في لواء اللّاذقيّة، ثمّ التحق بالمجلس العسكريّ في العاصمة دمشق حيث شغل منصب مدير الدّاخليّة وأطلق حكومته العربيّة الأولى في 5 تشرين أوّل 1918 م.، وخلال تولّيه منصبه هذا كان له دور رئيس في معالجة أحداث بعلبك والبقاع وفي سحب القوّات الفرنسيّة منها.
وبعد إعلان استقلال سورية بحدودها الطّبيعيّة، بُعيد انعقاد المؤتمر السّوريّ (6 آذار 1920 م.)، وإعلان فيصل ملكًا دستوريًّا عليها، استُبعد رشيد طليع عن تشكيل الحكومة الّذي ألّفه رضا الرّكابي، فحصل استياء في صفوف قيادات جبل الدّروز وأوساط التّجمّعات الدّرزيّة الشّعبيّة. وفي العام نفسه تولّى رشيد طليع منصب والي حلب، وعمل على مواجهة الفوضى والضّعضعة السّياسيّة السّائدة فيها.[15] ولاحقًا بُعيد خسارة الثّوّار في معركة ميسلّون (24 تمّوز 1920 م.)، ودخول الفرنسيّين مدينة دمشق، في اليوم التّالي.، بات رشيد طليع مطلوبًا من قِبل القيادة العليا هو وعدّة شخصيّات سياسيّة حُكم عليها بالإعدام، وحتّى عام 1925 م.، على الأقلّ، لم يصدر مرسوم عفو في حقّه. فترك المدينة وقصد حماه ثمّ انطلق إلى جبل الدّروز، حيث اعتصم إلى جانب قيادات الحركة العربيّة الثّورويّة قائدًا في الصّفّ الأوّل مع المناضلين.[16]
بعد هزيمة ميسلّون أنشأت عصبة الاستقلاليّين من سياسيّي الحكومة العربيّة ورجالات سورية، في الأردنّ (الّذي أضحى موئل السّياسيّين آنذاك) لجنةً مركزيّةً لحزب الاستقلال مُهمّتها قيادة النّضال ضدّ الاستعمار حتّى التّحرير. وكان رشيد طليع المتقدّم في تزعُّم الحزب، وعلى ذلك كان هو المرشّح الأوّل باسم الحزب لرئاسة الحكومة العربيّة الأولى المُزمع إقامتها في شرق الأردنّ.[17] أمّا شرق الأردنّ فكان نقطة التقاء للأمير عبدالله بن الحسين، الّذي أراد الوصول إلى سدّة الإمارة والملك، والمهزومين من رجال الحركة العربيّة في دمشق ومن رجال حزب الاستقلال الّذين راهنوا على التّحالف معه. هؤلاء طلبوا من الأمير عبدالله استدعاء رشيد طليع إلى الأردنّ بصفته رئيس حزب الاستقلال والرّجل الأنسب ليؤلّف الحكومة الأردنّيّة الأولى. وفي تلك الفترة أضحت سورية تحت الحكم الاستعماريّ الفرنسيّ المباشر، واضطرّ الآلاف من رجالات الثّورة إلى تركها واللّجوء إلى شرق الأردنّ.[18] وصل رشيد طليع إلى عمّان في 27 آذار 1921 م.، يرافقه جمع كبير من فرسان الجبل، وشكَّل الحكومة في 11 نيسان 1921 وشغل فيها منصب الكاتب الإداريّ ورئيس مجلس المشاورين ووكيل مشاور الدّاخليّة.[19] ومن منصبه هذا رسّم تشكيلات إداريّة جديدة ووضع اللّبنات القانونيّة والتّشريعيّة المحلّيّة الأولى لإمارة شرق الأردنّ، بعد أن كانت تسري فيها القوانين العثمانيّة الصّادرة بعد تشرين ثانٍ 1914 والتّشريعات الصّادرة، فيما بعد، عن الحكومة العربيّة في دمشق.[20]
استقالت حكومة رشيد طليع الأولى في 23/6/1921، وأُعيد تكليفه برئاسة الحكومة مجدّدًا في 5/7/1921، ثمّ قدّم استقالته الثّانية والأخيرة في 15/8/1921 بُعيد محاولة اغتيال الجنرال غورو الفاشلة؛ إذ طولِب بتسليم المشاركين في الحادث. بعد استقالته لبث في عمّان عامًا كاملًا حُظر فيه على وجوده في الحكم من قِبل البريطانيّين. فلجأ إلى مصر، عام 1923 م.، أسوةً بسياسيّي بلاد الشّام المُطاردين على يد سُلطات الانتداب، ويرجَّح أنّه بقي فيها حتّى منتصف عام 1925 م.
انطلقت ثورة الجبل وكان رشيد طليع مقيمًا في القدس، حينذاك، ومع ذلك كان له دور في الإعداد لها وفي امتدادها خارج الجبل؛ إذ جرت بينه وسلطان باشا الأطرش مكاتبات سرّيّة ومطّردة، تتعلّق بالتّحضير للثّورة حين تسنح الفرصة.[21] وكان موقعه مركز إعلام ومعلومات عن الثّورة في معاركها، ومركز تجميع ومعسكر انطلاق للمقاتلين الملتحقين بها من خارج سورية، إضافةً إلى مهمّته في تأمين غطاء ماليّ للثّورة من خلال جمع الإعانات بالتّعاون مع الحاجّ أمين الحُسينيّ والأمير عادل أرسلان.[22]
وبعد سقوط السّويداء في 25 نيسان 1926 التحق رشيد طليع بالثّورة جناحًا ميدانيًّا عسكريًّا، وخاض المعارك إلى جانب الثّوّار، واستنهض الدّروز للمجاهدة، حتّى جاءت معركة الشّبكي[23] الّتي اشترك فيها وجُرح في وادي الكلتة في الشّبكي ثمّ أُصيب بمرض ووافته المنيّة في منزل مضيفه خزاعي الجباعي، في آخر شهر أيلول من عام 1926 م.، عن عمر ناهز الخمسين عامًا، وقد نعاه القائد العامّ للثّورة فقال: “فقدنا بوفاته ركنًا من أركان الثّورة، ورجلًا من خيرة رجال العرب الأفاضل”.
كانت لوفاة رشيد طليع أثر مباشر في جبل الشّوف، حيث أقيمت له مناحة كبيرة انضمّ إليها وفود من القرى وزعماء كبار، ومناحة أخرى مهيبة أُقيمت له في جبل الدّروز. نذكر أنّ اسم المرحوم رشيد طليع ترسّخ في أماكن أربعة؛ إذ أُطلق على شارع شمال بيروت، وشارع آخر وسط العاصمة الأردنّيّة عمّان القديم، وفي مدرسة ثانويّة في عمّان أيضًا، والرّابع في نصب تذكاريّ أُقيم في قرية الشّبكي في جبل العرب.[24]
_______________________________________________
[1] منذر محمود جابر، سجّل أنا رشيد طليع: سيرة ومصير (لندن: مؤسّسة التّراث الدّرزيّ، 2008)، ص. 31.
[2] كان أوّل شيخ عقل للطّائفة الدّرزيّة من آل طليع، تولّى المشيخة عام 1845 م، وتلاه ولداه الشّيخ محمّد والشّيخ حسين.
[3] سيف الدّين القنطار، أعلام في السّياسة والأدب والفنّ (دمشق: مطبعة اتّحاد الكتّاب العرب، 2013)، ص. 79.
[4] جابر، سجّل أنا رشيد طليع، ص. 131.
[5] خير الدّين الزّركليّ، عامان في عمّان: مذكّرات عامين في عاصمة شرق الأردنّ 1921-1923 (عمّان: الأهليّة للنّشر والتّوزيع، 2009)، ص. 81.
[6] “الدّاووديّة” نسبةً إلى داوود باشا الأرمنيّ، وهي المدرسة الرّسميّة الأولى في لبنان المتصرّفيّة وفي ولايات بلاد الشّام (جابر، أنا رشيد طليع، ص. 32).
[7] أمين طليع، الشّهيد رشيد طليع 1876-1926: ملخّص من تاريخ حياته (بيروت: د. ن.، 1982)، ص. 9.
[8] المدرسة السّلطانيّة للعشائر، وهي مدرسة داخليّة، افتتحها السّلطان عبد الحميد الثّاني (1892-1907م) في الرّابع من تشرين أوّل عام 1892 م.، بهدف تزويد التّعليم العثمانيّ لأبناء كبار وجهاء العشائر، وربط هؤلاء الوجهاء بالنّظام العثمانيّ بصورة أكثر متانة، وكان السّلطان عبد الحميد هو “راعي المدرسة” أو “المدير الفخريّ” (للاستزادة راجِع كتاب مدرسة العشائر في إسطنبول، للمؤرّخ الأمريكيّ د. يوجين ل. روغان، ترجمه وأعدّه د. نهار محمّد نوري، وأُصدر عام 2014 م.
[9] https://www.rhdc.jo/ مركز التّوثيق الملكيّ الأردنّيّ الهاشميّ.
[10] طليع، الشّهيد رشيد طليع، ص. 10-12.
[11] جابر، سجّل أنا رشيد طليع، ص. 37-39.
[12] القنطار، أعلام في السّياسة، ص. 81.
[13] فيّاض فريد عبد الكريم، سلطان باشا الأطرش تاريخ وطن (دمشق: دار علاء الدّين للنّشر والتّوزيع والتّرجمة، 2004)، ص. 28.
[14] من أهمّ الجمعيّات الّتي برزت في البلاد العربيّة قبل الحرب العالميّة الأولى، هدفها “استقلال البلاد العربية استقلالًا تامًّا، بجميع معانيه الحقوقيّة والسّياسيّة وتأييد ذلك الاستقلال بجعل الأمّة العربيّة في مصاف الأمم الحيّة”. أشهرت حضورها في 5 شباط 1919.
[15] جابر، سجّل أنا رشيد طليع، ص. 103
[16] راجع: لسان الحال، 4/9/1920.
[17] جابر، سجّل أنا رشيد طليع، ص. 144.
[18] المصدر نفسه، ص. 163.
[19] جابر، سجّل أنا رشيد طليع، ص. 174. ذُكر في مكان آخر أنّه كان “مشاور الدّاخليّة” (اُنظر: كايد كريم الرّكيبات، “سياسة الأمير عبدالله بن الحسين في توجيه الحركة الوطنيّة لخدمة مصالح إمارة شرقيّ الأردنّ 1921-1924م.”. مجلّة جامعة الحسين بن طلال للبحوث، مجلّد. 7، ملحق، 2016، ص. 13).
[20] جابر، سجّل أنا رشيد طليع، ص. 225.
[21] عجاج نويهض، رجال من فلسطين: ما بين بداية القرن حتّى عام 1948 (بيروت: منشورات فلسطين المحتلّة، 1981)، ص. 353.
[22] جابر، سجّل أنا رشيد طليع، ص. 300.
[23] من قرى جبل العرب.
[24] جابر، سجّل أنا رشيد طليع، ص. 21-22.
* * *
للاستزادة والتّوسُّع:
- البعيني، نجيب. رجال من بلادي. د. م.: مؤسّسة دار الرّيحانيّ، 1984.
- جابر، منذر محمود. سجّل أنا رشيد طليع: سيرة ومصير. لندن: مؤسّسة التّراث الدّرزيّ، 2008.
- روغان، يوجين. مدرسة العشائر في إسطنبول. ترجمة وإعداد: د. نهار محمّد نوري. بغداد: الورّاق، 2014.
- الزّركليّ، خير الدّين. عامان في عمّان: مذكّرات عامين في عاصمة شرق الأردنّ 1921-1923. عمّان: الأهليّة للنّشر والتّوزيع، 2009.
- أبو زكي، فؤاد. المعنيّون؛ من الأمير فخر الدّين الثّاني المعنيّ التّنّوخيّ إلى الأمير سلطان باشا الأطرش المعنيّ التّنّوخيّ. الشّوف: الدّار التّقدّميّة، 2008، ص. 449.
- طليع، أمين. الشّهيد رشيد طليع 1876-1926: ملخّص من تاريخ حياته. بيروت: د. ن.، 1982.
- عبد الكريم، فيّاض فريد. سلطان باشا الأطرش تاريخ وطن. دمشق: دار علاء الدّين للنّشر والتّوزيع والتّرجمة، 2004.
- عبيد، سلامة. الثّورة السّوريّة الكبرى 1925-1927 على ضوء وثائق لم تُنشر. د. م: د. ن.، 1971.
- القنطار، سيف الدّين. أعلام في السّياسة والأدب والفنّ. دمشق: مطبعة اتّحاد الكتّاب العرب، 2013.
- الأطرش، ريم منصور. المذكّرات الحقيقيّة لسلطان باشا الأطرش القائد العامّ للثّورة السّوريّة الكبرى. تحقيق: د. ريم الأطرش، بيروت: دار أبعاد للطّباعة والنّشر، 2022.
- نويهض، عجاج. رجال من فلسطين: ما بين بداية القرن حتّى عام 1948. بيروت: منشورات فلسطين المحتلّة،1981.
- نويهض، عجاج. ستّون عامًا مع القافلة العربيّة. بيروت: دار الاستقلال للنّشر والتّوزيع، 1993.
- مركز التّوثيق الملكيّ الأردنّيّ الهاشميّ: https://www.rhdc.jo/