شبلي العريان كان مجاهدًا من كبار القادة الموحّدين في التّاريخ، أصله من وادي التّيم، قاد القتال في الثّورة الدّرزيّة ضدّ حُكم إبراهيم باشا، عام 1838 م.، وكان من القادة الدّروز في جبل لبنان خلال الحروب الأهليّة الّتي دارت رحاها عام 1842 م. و-1860 م.. تنبع أهمّيّة شبلي العريان ليس من القيادة النّاجحة للمقاتلين الدّروز في الأحداث المذكورة فقط، إنّما لثلاثة أسباب رئيسة أيضًا:
- كان القائد الأوّل، منذ فخر الدّين الثّاني، وقد سبقه بمئتي عام، الّذي يقود حراكًا عسكريًّا ضدّ حُكم وجيشه النّظاميّ في التّمرّد على إبراهيم باشا، عام 1838 م.. لعلّ معركة “عين دارة”، عام 1711 م.، كانت عملًا عسكريًّا واسع النّطاق فعلًا، وكان فيها جانب دعمه الحُكم العثمانيّ المركزيّ، غير أنّه لم يقاتل في هذه المعركة جنود عثمانيّون نظاميّون؛
- شكّل التّمرّد الّذي قاده شبلي في حوران، على إبراهيم باشا، الحراك القتاليّ الأوّل للدّروز في هذه المنطقة، بعد أكثر من 120 عامًا من الاستيطان في موجات صغيرة (جاءت موجات الهجرة الكبيرة في ستّينيّات القرن الميلاديّ التّاسع عشر). في هذا التّمرّد طُوّرت أساليب قتال رئيسة استخدمها الدّروز في حوران في تحرّكاتهم القتاليّة خلال الانتفاضات المختلفة في الجبل طوال سنوات الحُكم العثمانيّ والانتداب الفرنسيّ؛
- كان تمرُّد الدّروز على إبراهيم باشا سابقة لتكتُّل الجماعات الدّرزيّة وتوحُّدها في مناطق مختلفة: حوران، وادي التّيم وجبل لبنان، على نحو شكّل أفضليّة حربيّة واستراتيجيّة واضحة أمام خصومهم في ثوراتهم المختلفة، وفي النّزاعات المختلفة مع المجتمعات المجاورة (أبناء القبائل، الشّركس، الأكراد، الفلّاحون المسلمون والمسيحيّون)، في كلٍّ من جبل لبنان وحوران.
وُلد شبلي العريان في راشيّا، في لبنان، بدايةَ القرن التّاسع عشر، وحين بلغ استقرّ في وادي التّيم. ارتقى منصّة التّاريخ مع بداية الاستعدادات للتّمرّد الدّرزيّ ضدّ حُكم إبراهيم باشا، أواخرَ ثلاثينيّات القرن الميلاديّ التّاسع عشر. لا يتّفق المؤرّخون جميعًا على موعد بدء التّجهيز للانتفاضة الدّرزيّة في حوران الّتي اندلعت عام 1838 م.، هُم يُجمعون على أنّ سبب الانتفاضة الرّئيس هو محاولة إبراهيم باشا فرض التّجنيد الإجباريّ على الدّروز في صفوف الجيش المصريّ. كانت الحكومة المصريّة محتاجةً إلى المقاتلين الدّروز، الّذين عُرفوا بقدراتهم القتاليّة، في الحروب الّتي خاضتها في اليمن وفي جنوب وادي النّيل. مع ذلك فإنّ اهتمام الدّروز بالتّجنيد كان معدومًا؛ كونهم لم يُجنّدوا قطّ تجنيدًا إجباريًّا في صفوف الجيش العثمانيّ؛ إذ كانت حروبهم الرّئيسة محلّيّة ضدّ الجماعات والعشائر الّتي وقعوا في صراع معها، أو ضدّ السُّلطات الّتي نادرًا ما شنّت عليهم حملات عقابيّة.
من المعلوم أنّ شبلي كان حاضرًا في الاجتماع العامّ الأوّل للقادة الدّروز في السّويداء، الّذي عقده يحيى الحمدان، بعد أن ردّ حاكم سورية، شريف باشا، طلبه بإعفاء الدّروز من التّجنيد مقابل دفع ضرائب إضافيّة على المحاصيل بالرّفض والإهانة. وفي عام 1837 م.، أجمع دروز حوران على العصيان وتجهّزوا له بالتّنسيق مع عرب السّلوط الّذين ساعدوهم، لاحقًا، في الانسحاب اللّوجستيّ إلى قرى سهل اللّجاة البركانيّ. لذا، في يناير 1838 م.، لمّا نفّذ الجيش المصري الهجوم الأوّل على الدّروز في حوران، تعرّض 400 جنديّ من قوّات إبراهيم باشا لهزيمة قاسية. قاد شبلي هجومًا نُفِّذ على شكل غارات وكمائن على القوّات المصريّة، كانت نهايته أن انقطع الاتّصال مع المقاتلين الدّروز بسرعة وتقهقروا عائدين سريعًا إلى قلب اللّجاة. كان القتال داخل منطقة اللّجاة في نظر قوّات الجيش النّظاميّ أمرًا صعبًا جدًّا، ذلك بسبب التّضاريس القاسية، البُعد عن خطوط الإمداد ودرجات الحرارة المتطرّفة عند خوضهم القتال صيفًا.
أمّا الضّربة الّتي تلقّتها قوّات الجيش المصريّ فدفعت إبراهيم باشا إلى الاستعداد للقتال بحشد قوّات أكبر بكثير؛ فقد أرسل 4,000 جنديّ ألبانيّ من المقاتلين الأقوياء لقمع التّمرّد الدّرزيّ، وأضاف إليهم أمير جبل لبنان، الأمير بشير الثّاني الشّهابيّ، مقاتلين مسيحيّين. إضافةً إلى ذلك، أقام إبراهيم باشا حِلفًا مع قبيلة عنيزة القاطنة شرق حوران، وعليه فقد استطاع تطويق الدّروز. وكانت الحلقة الأخيرة في السّلسلة قطع التّحالف بين قبيلة السّلوط والدّروز. في المقابل، استدعى شبلي مقاتلين دروز من وادي التّيم وجبل لبنان جاؤوا للقتال في حوران، فعرقلوا الطّرق الرّئيسة حوله، من أجل قطع خطوط إمدادات الجيش عن حوران. مع هذا كلّه هُزم الدّروز في هذه المعركة واضطرّ شبلي إلى التّراجع إلى بلدة راشيّا الدّرزيّة، في وادي التّيم، حيث قتل حاكمها وسيطر على البلدة. بعد تكبُّد خسائر أُخرى كثيرة في المعارك الّتي وقعت جنوب وادي التّيم تراجع شبلي مع 1,500 مقاتل إلى جبل الشّيخ وحصّن نفسه هناك. هذه المجموعة من المقاتلين، إلى جانب القوّة الّتي قادها حسين أبو عسّاف في اللُّجاة، كانت آخر مقاومة امتلكها الدّروز في صيف عام 1838 م.، في حين توصّل غالبيّة قادتهم في حوران وجبل لبنان إلى اتّفاقيّة استسلام مع إبراهيم باشا. ومع ذلك فنحن نعلم، من الوثائق الأرشيفيّة المصريّة، أنّ شبلي نفسه قد تجنّد في صفوف الجيش في نهاية عام 1838 م..
الأحداث التّالية الّتي اشترك فيها شبلي العريان كانت سلسلة من الاشتباكات دارت بين الدّروز والمسيحيّين الموارنة، في جبل لبنان ومحيطه، عام 1841 م.. قاد شبلي المقاتلين الدّروز الّذين أتوا إلى جبل لبنان من وادي التّيم وحوران، وكان هو نقطة الوصل مع البريطانيّين في المنطقة الّذين سعوا إلى كسب دعم الدّروز، بغرض موازنة النّفوذ الفرنسيّ العميق والقديم على الموارنة. من خلال ترويع العناصر الدّرزيّة الّتي كان من الممكن أن تتعاون مع الفرنسيّين، أعاد شبلي الوحدة الدّرزيّة بين جبل لبنان وجبل حوران من جديد، وشنّ هجومًا على منطقة وادي التّيم، بدعمٍ من دمشق. ثمّ نزع سلاح المسيحيّين في منطقتَي حاصبيّا وراشيّا، وهاجم نحو 80 قرية مسيحيّة أُخرى. ومن هناك واصل هجومه على البقاع بنجاح لم يوقفه إلّا محور مارونيّ-شيعيّ في زحلة. بعد الهجوم المارونيّ-الشّيعيّ النّاجح في زحلة جهّز شبلي قوّاته لهجوم مضادّ في منطقة الشّويفات. ومع أنّ الهجوم الدّرزيّ كان ناجحًا فلم يكن بالإمكان استمرار نجاح القوّات الدّرزيّة، وذلك بسبب تدخُّل قناصل الدّول العظمى الأوروبّيّة كلّها الّذين سعوا إلى إنهاء الأعمال العدائيّة المتبادَلة في جبل لبنان. تحت تأثير هذه الضّغوطات اجتمع شبلي والقادة الدّروز بالقادة الموارنة ووقّعوا اتّفاقًا ينصّ على وقف إطلاق النّار، تلته اتّفاقيّة القائمقاميّة المزدوجة: سيطرة مارونيّة-درزيّة مشتركة حلّت محلّ نموذج السّيطرة المقاطعجيّة في جبل لبنان؛ إذ مثّل الدّروز المجموعة المهيمنة فيها.
المعلومات المتوفّرة لدينا حول نشاط شبلي العريان خلال فترة القائمقاميّة المزدوجة هي محدودة. مع ذلك، ففي فترة مبكرة قاد شبلي تمرّدًا درزيًّا-مارونيًّا ضدّ حُكم عمر باشا، حاكم جبل لبنان العثمانيّ الجديد آنذاك. كان الهدف الأكبر من هذا التّمرّد إطلاق سراح المشايخ الدّروز الّذين سُجنوا في بيروت، في أعقاب الحرب الأهليّة عام 1842 م.، الإعفاء الكامل من التّجنيد، الإعفاء من الضّرائب لمدّة ثلاث سنوات، وعودة الشّهابيّين إلى السُّلطة في جبل لبنان بدلًا من الحاكم المُنصَّب من قِبل الحكومة المركزيّة، عمر باشا. ومع نجاحه في تجنيد المقاتلين في هذا التّمرّد، ومع الاتّفاق على إطلاق سراح المشايخ الدّروز، كان الجيش العثمانيّ قادرًا على قمع التّمرّد بسهولة نسبيّة، ممّا اضطرّ شبلي إلى الاستسلام.
كان لنجاحات شبلي في حوران وجبل لبنان، بصفته محاربًا وقائدًا عسكريًّا، الفضل الأوّل للمكانة الّتي تبوّأها؛ فهو لم يكن منتميًا إلى أيّ من العائلات الوجاهيّة. وقد خلفه في القيادة العسكريّة الواسعة النّطاق للمقاتلين الدّروز إسماعيل الأطرش الّذي كان يتحلّى بالصّفات ذاتها، واستمرّ في الحفاظ على الحلف الفعّال بين الدّروز في حوران وجبل لبنان. تبنّى إسماعيل أساليب عمل شبلي وطبّقها في انتفاضة حوران عام 1852 م.، وفي الحرب الأهليّة عام 1860 م. في جبل لبنان.
لقد فارق شبلي الحياة في سنّ كبيرة، في فترة الحرب الأهليّة عام 1860 م.، وكانت هذه الأحداث هي الأحداث الأخيرة الّتي يجري فيها تنسيق مستمرّ وواسع إلى جانب قتال مشترك لدروز من حوران ودروز من جبل لبنان.
***
للاستزادة والتّوسُّع:
- Firro, Kais. A History of the Druzes, Leiden: Brill, 1991.
- Makdisi, Ussama. The Culture of Sectarianism: Community, History and Violence in Nineteenth Century Ottoman Lebanon. Berkeley and Los Angeles, CA: California University Press, 2000.
- Talhamy, Yvette. “The Nusayri and Druze Minorities in Syria in the Nineteenth Century: The Revolt against the Egyptian Occupation as a Case Study.” Middle Eastern Studies 48, no. 6 (2012): 973–95.