صيّاح الحَمّود الأطرش اسمٌ ارتبط بقريته بكّا؛ إذ كان هو فارسها البطل وشاعرها الجَسور. تغنّى به أبناء مجتمعه ورأوا فيه مَثَلَهم بشجاعته ورأيه الحكيم، فحفظوا موّالَه الّذي طالما ردَّدَه، وتداولوا قصص معارك الشّرف الّتي خاضها. وقد تغنّت بشِعره المطربة أسمهان، حين قال موّاله الشّهير في وادي السّرحان:
“يا ديرتي مالِك عَلينا لوم لا تِعْتَبي لومِك على مَن خان
حِنّا رَوينا سْيوفِنا من القوم مِثل العدوّ ما نْرَخصِك بأثمان”
في قرية بكّا، عام 1898 م.، وفي ظروف مضطربة بين النّفي والتّشرّد والتّآمر من قِبل الاحتلال العثمانيّ؛ كانت ولادة صيّاح نايف بن سلامة الحمّود الأطرش. والده توفّي قبل ولادته، فنشأ في كنف والدته، وتحت رعاية أبناء عمّه الطُّرشان. درس في المدرسة الأهليّة في السّويداء، وأخذ عن بعضٍ من أساتذتها.
خرج صيّاح من قمقم الطّفولة باكرًا، فتفتّحت عيونه على الحرب والقتال، وأصبح حصانه ضرورةً لا تنفصل عن حياته، وسلاحه رفيق دربه الدّائم، فكان من الفرسان البارزين ومن قوّاد الثّورة السّوريّة الّتي شبّت عام 1925م.، ولُقّب بـِ-“أبو المغاوير” في معاركها. وفي الوقت نفسه لم ينسَ عالم الفكر والثّقافة؛ فتعلّم وبإصرار كتابة الحرف وقراءته، ثمّ أخذ يقرأ الكتب كالقرآن الكريم، والحديث النّبويّ، والفقه والحكمة، والأدب والتّاريخ والشّعر. وحين اشتدّ عوده واكتشف الموقع الّذي ينبغي له أن يكون فيه، من أجل العمل الجادّ واقتلاع جذور الفساد من تُربة وطنه، اختار البقاء إلى جانب المغفور له سلطان باشا الأطرش الّذي عانق ذلك الفتى وقرَّبه من نفسه، ووجد فيه الرّأي والوفاء والصّدق والشّجاعة. وهناك دلالة على ذلك في واحدة من رسائل قائد الثّورة سلطان باشا إلى قائد الدَّرَك الوطنيّ حُسني صخر، يقول فيها: “أرسلتُ صيّاح لأجل يرتاح يومين وليرى عياله، ومرادي يكون مع أخي زيد على رأس الجيش حين لا نجد من يخدم القضيّة مثله، أسأل الله توفيقه ولا يشعثنا به. التّوقيع: سلطان الأطرش”.
شخصيّة المجاهد صيّاح الأطرش تُعدّ من الشّخصيّات القلائل الّتي أثّرت في البنية الاجتماعيّة، وخلّفت إرثًا وطنيًّا وأدبيًّا كبيرًا؛ فهو نموذج للأب المعطاء، وهو الباعث في نفوس أبناء مجتمعه الصّفات الإنسانيّة والأخلاقيّة من العفّة والشّهامة والشّجاعة والمروءة، والأهمّ أنّه ترك بصمة في نفس الكثيرين من أبناء المجتمع جعلوه مثلهم الإنسانيّ، فقد كان يعتني بجيل الشّباب غارسًا في قلوبهم وأذهانهم الانتماءَ والأدبَ.
في معركة “الصّوخر” الّتي دارت رحاها في 23 آب 1926 م.، قطعت فرس من الخيول رباطها وفرّت هاربةً في اتّجاه العدو، فاستولى عليها الضّابط الفرنسيّ فييني وأخذ عن ظهرها فروة المجاهد صيّاح، وكلّما لبسها قال: “إنّها غنيمة حرب من عدوّي اللّدود صيّاح!”. ولاحقًا في معركة “قيصما” فرّ الضّابط الفرنسيّ نفسه من أرض المعركة فلاحقه صيّاح الأطرش، وفي أثناء المطاردة سقطت من الضّابط خوذته ولاذ هو بالفرار، فأخذ صيّاح الخوذة لتكون شاهدًا للتّاريخ على ما حصل. مرّت الأيّام حتّى جاءت المعاهدة السّوريّة، عام 1936 م.، وعاد الثّوّار من المنفى، أمّا الضّابط الفرنسيّ فييني فأصبح، في ذلك الوقت، رئيسًا للمخابرات في الجبل، وحينها زار المجاهد “صيّاح الأطرش” في قرية “بكّا”، وبعد السّلام قال له: “عندما ترُدَّ الزّيارة سأعطيك فروتك الّتي أخذتها في معركة “الصّوخر”، فأجابه صيّاح بثقة وتهكُّم: “لقد أخذتَ فروتي عن ظهر فرسٍ لي لم أكُن راكبها، في حين أنا أخذتُ خوذتك عن رأسك في معركة “قيصما” الّتي هربت منها مع من تبقّى من جنودك بعد انتصارنا عليكم. فهل تتذكّر يا صديقي معركة “قيصما؟”.
صادر الاستعمار الفرنسيّ أملاك صيّاح الأطرش، واستولى على أرضه ونهب خيراته، منذ عام 1925 م. حتّى عام 1937 م.، فهدم دارَه أكثر من مرّة بالقنابل والطّائرات، وحكم عليه بالنّفي والإعدام في 26 شباط عام 1927 ميلاديّ.
***
للاستزادة والتّوسُّع:
- الأطرش، ريم منصور سلطان. المذكّرات الحقيقيّة لِسلطان باشا الأطرش القائد العامّ للثّورة السّوريّة الكبرى. بيروت: دار أبعاد للطّباعة والنّشر، 2021.
- البعينيّ، حسن أمين. سلطان باشا الأطرش. مؤسّسة التّراث الدّرزيّ، 1985.
- البعيني، حسن أمين. “المجاهد صيّاح الحمّود الأطرش”. مجلّة الضّحى، 1 أيّار (2015): https://dhohamagazine.com/%D8%B5%D9%8A%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B7%D8%B1%D8%B4/
- الدّبيسي، يوسف سليم؛ مزهر، صلاح قاسم. المذكّرات الكاملة للزّعيم سلطان باشا الأطرش: القائد العامّ للثّورة السّوريّة الكبرى، 1925-1927. د. م: د. ن، 1998.
- عبيد، سلامة. الثّورة السّوريّة الكبرى. بيروت: مطابع دار الغد، 1971.
- هندي، إحسان. كفاح الشّعب العربيّ السّوريّ 1908-1948؛ دراسة تاريخيّة عسكريّة. دمشق: إدارة الشّؤون العامّة والتّوجيه المعنويّ، 1962.