تُعدّ المغار من الحواضر البارزة في منطقة الشّاغور، وتمثّل نموذجًا لمدينة ذات نسيج اجتماعيّ ودينيّ غنيّ؛ إذ تحتضن أبناء الطّوائف الدّرزيّة والإسلاميّة والمسيحيّة في إطار من التّفاعل الثّقافيّ المتآلف. ومنذ نشأتها التّاريخيّة، مرّت المغار بتحوُّلات ديموغرافيّة واقتصاديّة وثقافيّة متسارعة، أسهمت في ترسيخ مكانتها بوصفها مركزًا حضاريًّا ناميًا، ينهض بدَور محوريّ في المشهدين الجغرافيّ والاجتماعيّ للجليل، ويُشكّل نقطة تلاقٍ بين إرث الماضي ورؤى المستقبل في مدينة تشهد تطوّرًا مستمرًّا في هويّتها العمرانيّة والاجتماعيّة.
التّسمية
تحيط بِاسم “المغار” عدّة روايات تعكس تعدُّد الطّبقات التّاريخيّة والجغرافيّة الّتي مرّت بها المنطقة. يرجَّح أنّ أصل التّسمية يعود إلى وفرة المغاور الطّبيعيّة في جبل حزّور[1]، وهي كهوف تشكّلت بفعل عمليّات إذابة كيميائيّة للصّخر الجيريّ عبر المياه، في ظاهرة تُعرف جيولوجيًّا بعمليّة “الكارست”. كما تُنسب التّسمية إلى الجذر اللّغويّ “غ. و. ر.” الّذي يُحيل إلى معاني الكهوف والمغارات،[2] وتأتي “مَغار” على وزن “مَفعَل”، دلالةً على موضع الغار في الجبل. وهناك من يربط التّسمية بالفعل “أغارَ – يُغير”، في إشارة إلى ما شهدته المنطقة من معارك واشتباكات في العصور القديمة. من زاوية تاريخيّة أُخرى، يُعتقد أنّ الموقع الحاليّ هو ذاته الّذي قامت عليه البلدة اليهوديّة القديمة “مَعارْيا”، المذكورة في التّلمود، الّتي سكنت فيها عائلة من عائلات الكهنة الّتي كانت تحرس الهيكل في القدس، وانتقلت إلى الجليل بعد تدميره. ويُعثر على اسم المغار، أيضًا، في البعض من السّجلّات العثمانيّة، حيث وُصفت بأنّها قرية زراعيّة صغيرة ضمن إقطاعيّات الجليل في تلك الفترة.
الموقع الجغرافيّ
تقع مدينة المغار على السّفوح الغربيّة لجبال الجليل الأسفل الشّرقيّ، شمال إسرائيل، بارتفاعٍ يتراوح بين 300-400 مترًا فوق سطح البحر يمنحها إطلالة بانوراميّة تمتدّ شرقًا نحو بحيرة طبريّة، وغربًا على سهول البطّوف الخصبة. يحدّها من الشّمال جبل حزّور، ومن الجنوب قرية عيلبون، بينما تُتاخمها من الغرب بلدة دير حنّا ومنطقة البطّوف، ويفصلها من الشّرق شارع 65 الّذي يُعدّ محورًا حيويًّا يربط المغار بمراكز حضريّة عدّة. وبفضل موقعها الجغرافيّ الاستراتيجيّ تتّصل المغار بمدن محوريّة، مثل: النّاصرة، صفد وكرميئيل، ما يجعلها نقطة عبور رئيسة بين التّجمّعات المختلفة في الجليل، وجسرًا يربط بين مناطق الجليلَين الأعلى والأسفل.
تتميّز مدينة المغار ببنية تحتيّة حديثة تدعم موقعها الاستراتيجيّ ضمن شبكة المواصلات الإقليميّة، ما يجعلها مركزًا ديناميكيًّا متّصلًا بمحاور النّقل الرّئيسة في الجليل. تمتلك المدينة ثلاثة مداخل رئيسة؛ إذ يرتبط المدخل الشّرقيّ والجنوبيّ بطريق جولاني-عميعاد الّذي يشكّل محورًا مركزيًّا يصل الجليل الشّرقيّ بمنطقة طبريّة، في حين يتّصل المدخل الشّماليّ بطريق عكّا-صفد الّذي يُعدّ ممرًّا حيويًّا يربط السّاحل بالمناطق الجبليّة الشّماليّة. وقد أسهمت هذه الشّبكة في تنمية النّشاط الاقتصاديّ والتّجاريّ في المدينة، وجعلت منها مركزًا نابضًا بالحركة يُسهم في تسهيل التّنقل وتعزيز التّواصل بين مختلف التّجمّعات السّكّانيّة في الجليل.
تتميّز تضاريس المدينة بتباينات حادة بين الانحدارات الشّديدة والمرتفعات المستوية؛ إذ تنتشر المناطق المبنيّة على امتداد طوبوغرافيّ واسع، يبدأ من 100 متر فوق سطح البحر في الأجزاء المنخفضة، وصولًا إلى ما يقارب الـ-500 متر في المناطق الأكثر ارتفاعًا.
المُناخ
يسود المغار مُناخ يجمع بين الخصائص المتوسّطيّة والطّبيعة الجبليّة؛ إذ تتوشّح فصولها الشّتويّة بنسمات باردة وأمطار وفيرة تُغذّي تربتها، فيما يتّسم صيفها بالجفاف المعتدل، متيحًا بيئة مُناخيّة مثاليّة لأنشطة زراعيّة متنوّعة. هذا التّوازن المُناخيّ يُضفي على المنطقة طابعًا زراعيًّا غنيًّا، يُسهم في ازدهار محاصيلها التّقليديّة، ويمنحها موقعًا استراتيجيًّا في نسيج الجليل البيئيّ.
تنعكس هذه الخصائص المُناخيّة الملائمة على طبيعة المحاصيل الزّراعية في المدينة؛ فالمغار تشتهر بزراعة الزّيتون الّذي يُعَدّ العمود الفقريّ للزّراعة المحلّيّة، وتنتشر كرومه على سفوح التّلال ومحيط المدينة، منتجةً زيتًا عالي الجودة يُشكّل جزءًا أصيلًا من تراث المنطقة الزّراعيّ. كما تُزرع أشجار التّين والعنب والرّمّان الّتي تتأقلم مع المُناخ الجبليّ وتزدهر في تربته الخصبة، إلى جانب محاصيل الحبوب والبقوليّات الّتي تعزز الاكتفاء الزّراعيّ المحلّيّ. وتُسهم هذه الزّراعة المتنوّعة في دعم الاقتصاد الرّيفيّ-الحضريّ، وتحافظ على الطّابع الزّراعيّ الّذي يميّز المغار منذ قرون.
أصول السّكّان، التّطوّر السّكّانيّ
تتألّف القرية من عائلات تعود أصولها إلى مناطق متعدّدة، أبرزها منطقة جبل الدّروز (حوران)، جبل لبنان، وغرب الجليل. استقرّت هذه العائلات في المغار في مراحل زمنيّة مختلفة، منذ القرن الميلاديّ الثامن عشر، البعض منها نتيجةَ هجرتَين منظّمتَين من جبل الدّروز، وأُخرى نتيجةَ تحوُّلات سياسيّة واجتماعيّة. تُشير الوثائق التّاريخيّة إلى أنّ المغار استوعبت عائلات مسيحيّة من قرية الرّامة المجاورة، وأُخرى إسلاميّة من منطقة البطّوف، إضافةً إلى مجموعات درزيّة من عين قنيا وجبل الشّيخ.
الآثار التّاريخيّة
تُشير الشّواهد الأثريّة والبقايا العمرانيّة القديمة المنتشرة في محيط المغار إلى أنّ المنطقة كانت مأهولة بالسّكّان منذ العصور الميلاديّة الأولى، بل وتدلّ على استمراريّة الاستيطان فيها على امتداد فترات تاريخيّة متعدّدة. يتجلّى ذلك في تنوُّع المكتشَفات الأثريّة الّتي تعود إلى عصور مختلفة، ما يعكس تتابُع الحضارات على هذه البقعة من الجليل. وتُبرز الحفريّات الّتي نُفّذت في الموقع دلائل على وجود الفيلق الرّومانيّ السّادس في القرن الميلاديّ الثّاني، وهو ما يشير إلى أهمّيّة الموقع في تلك المرحلة الزّمنيّة. كما تذكر البعض من الشّهادات العائدة إلى الحقبة المملوكيّة أنّ قريةً قائمةً آنذاك قد دُمّرت في أعقاب حريق كبير، ويبدو أنّ هذه القرية قد بُنيت فوق أنقاض موقع أقدم ينتمي إلى العصر الإسرائيليّ القديم، بحسب الطّبقات الأثريّة المكتشَفة تحت الصّخور الطّبيعيّة. وتُشير سجلّات ضريبيّة عثمانيّة إلى استمرار وجود قرية في الموقع خلال العهد المملوكيّ، وكان مقدار الضّريبة المفروضة ضئيلًا، ما يعكس صغر حجم التّجمُّع السّكّانيّ في القرية، في تلك الفترة.
وفي طرف المدينة الشّرقيّ تقع خربة المنصورة، وهي بقايا حيّ قديم كان مأهولًا حتّى منتصف القرن الميلاديّ العشرين (1950 م.). يعود تأسيس هذا الحيّ إلى قرون خلت، وقد بُنيت بيوته على مرتفع يبلغ نحو 250 مترًا فوق سطح البحر، بالقرب من نبع ماء عُرف باسم “عين المنصورة”، كان يشكّل مصدرًا حيويًّا للمياه، يخدم سكّان المنصورة والمغار معًا. يُروى في الذّاكرة المحلّيّة أنّ المنصورة سبقت المغار في النّشوء، وهو ما تعزّزه إشارات وردت في سجلّات إداريّة تعود إلى أواخر العصر العثمانيّ، حيث سُجّلت أسماء ستّة عشر ربّ أُسرة من سكّان المنصورة، كانوا يدفعون ضرائب عينيّة شملت محاصيل زراعيّة ومنتجات ريفيّة متنوّعة. ويُستدل من المعطيات نفسها أنّ المغار كانت في تلك الفترة أكبر حجمًا من حيث عدد السّكّان. كما حفظت الرّوايات والزّيارات الأجنبيّة مشاهد من الحياة اليوميّة في المنطقة، ومنها ما رواه واحد من المسافرين الأوروبّيّين في أواخر القرن الميلاديّ التّاسع عشر، عن نساء من المغار يحملن جرار الماء فوق رؤوسهنّ. ومع أنّ الاستيطان في المنصورة توقّف منذ عقود، فإنّ المكان لم يخرج من الوعي المحلّيّ؛ إذ تقرّر، في سبعينيّات القرن الميلاديّ العشرين، إقامة حيّ سكنيّ جديد في جوار الخربة، خُصّص لأبناء البلدة من الجنود المسرّحين، ما أعاد للموقع حياة رمزيّة ومعاصرة.
في العهد العثمانيّ
أُلحِقت المغار بالدّولة العثمانيّة عام 1517 م.، مع ضمّ بلاد الشّآم إليها، وابتداءً من منتصف القرن الميلاديّ السّادس عشر، أُدرجت القرية في سجلّات الضّرائب الرّسميّة. في عام 1555 م. دُفعت ضريبة على غزْل الحرير،[3] وفي عام 1596 م. ورد ذِكر القرية بِاسم “مغار حزّور” ضمن ناحية طبريّة التّابعة لسنجق صفد. دفع السّكّان، حينها، ضريبة بنسبة 25% على محاصيلهم الزّراعيّة ومواشيهم، بما في ذلك القمح والشّعير والزّيتون والماعز والنّحل، فضلًا عن معصرة للزّيتون أو العنب، وبلغ إجماليّ الضّرائب 14,136 آقجة.
ومع تعاقب العقود، خلال الفترة العثمانيّة، لم تقتصر التّغيّرات في المغار على الجوانب الاقتصاديّة والإداريّة، بل بدأت ملامح التّحوّل الاجتماعيّ والدّيموغرافي تبرز بوضوح، مع ازدياد التّنوّع الطّائفيّ في السّكّان وتغيُّر تركيبتهم الدّينيّة. ففي عام 1838 م.، وصفها الباحث المستشرق إدوارد روبنسون بأنّها قرية يسكنها الدّروز والمسيحيّون والمسلمون بنسب متساوية. وفي عام 1875 م. زارها الباحث الفرنسيّ ڤيكتور جويرين ووجد فيها نحو 1,200 نسمة موزّعين على ثلاثة أرباع طائفيّة. أمّا في عام 1881 م. فقد وصفها صندوق استكشاف فلسطين بأنّها قرية كبيرة مبنيّة بالحجارة، تضمّ حوالي 1,100 نسمة من أبناء الطّوائف الثّلاث، وتقع على منحدرٍ يطلّ على بساتين زيتون واسعة، وتحتوي على بركة وينبوع وفير بالمياه. كما تُشير قائمة سكّانيّة من عام 1887 م. إلى أنّ عدد سكّان “مغار حزّور” بلغ نحو 1,360 نسمة، توزّعوا بين 180 مسلمًا، 625 درزيًّا، و-420 مسيحيًّا من أتباع الكنيسة الكاثوليكيّة.
في عهد الانتداب البريطانيّ
خلال فترة الانتداب البريطانيّ حافظت المغار على طابعها القرويّ وتنوّعها الطّائفيّ. في عام 1923 م. وصفها الكاهن اليسوعيّ توتل بأنّها قرية تقوم على أكمة، بيوتها ظاهرة بين أشجار الزّيتون والصّبّار، وأشار إلى وجود مدرستين رسميّتين، إحداهما للمسيحيّين قرب الكنيسة، وأُخرى للدّروز. وَفقًا لتعداد عام 1922 م. بلغ عدد سكّان المغار والمنصورة 1,377 نسمة، توزّعوا بين المسلمين والدّروز والمسيحيّين من أتباع كنيسة الرّوم الكاثوليك،[4] وارتفع العدد في تعداد عام 1931 م. إلى 1,733 نسمة، مع استمرار التّركيبة الطّائفيّة الثّلاثيّة. وفي تعداد سكّانيّ آخر أُجري عام 1945 م. على يد سُلطات الانتداب البريطانيّ، قُدِّر عدد سكّان قرية المغار بنحو 2,140 نسمة. يعكس هذا المعطى استمرار النّموّ الدّيموغرافيّ في القرية قُبيل قيام دولة إسرائيل.
قيام الدّولة عام 1948 م.
كسائر قرى الجليل، واجهت المغار عامَ 1948 م. لحظةً فارقةً في تاريخها، حين جُمع سكّانها في ساحة القرية، آنذاك، وأُمروا بالخضوع لعمليّة “فرز طائفيّ”. إلّا أنّ هذا القرار قوبِل برفض قاطع من قِبل وجهاء القرية، وفي مقدّمتهم المرحوم حسين وحش عرايدي الّذي رفض أيّ محاولة لتقسيم النّسيج الاجتماعيّ المتماسك. حين أُبلغ بأنّ الدّروز سيبقون بينما يُطلب من الآخرين الرّحيل، جاء ردّه حاسمًا: “نبقى جميعًا أو نرحل جميعًا”، معبّرًا بذلك عن مبدأ راسخ في وجدان أبناء المغار، يقوم على وحدة المصير والتّعايش المشترك. شكّلت هذه الحادثة نقطة محوريّة في تأكيد التّلاحم الاجتماعيّ في المدينة؛ إذ ظلّت المغار لعقود نموذجًا للتّعايش السّلميّ والتّآخي بين طوائفها المختلفة، حتّى وإن واجه هذا النّسيج، أحيانًا، تحدّيات عابرة أثّرت مؤقّتًا في توازنه. ومن أبرزها ما شهدته المدينة في مطلع القرن الحادي والعشرين، من أحداث مؤسفة، جرى احتواؤها آنذاك بحكمة قيادات الطّوائف الثّلاث؛ الدّرزيّة والمسيحيّة والإسلاميّة، وبتعاون أهالي القرية جميعًا الّذين سارعوا إلى إعادة الأمور إلى نصابها الطّبيعيّ. ومن هذا المنظور، تبقى حادثة 1948 م. شاهدًا على قدرة أبناء المغار على تغليب القيم المشتركة، والوقوف صفًّا واحدًا في وجه محاولات التّفرقة، واستلهام ذلك في كلّ مرحلة تواجه فيها المغار تحدّيًا جديدًا.
من سُلطة محلّيّة إلى بلديّة
في بداية السّتّينيّات، بلغ عدد سكّان المغار نحو 4,460 نسمة، وبدأت القرية تشهد نموًّا سريعًا ملحوظًا في العقود التّالية. عام 1956 م. حصلت على مكانة مجلس محلّيّ، وشهدت تلك الفترة بدايات التّنظيم الإداريّ فيها. وحتّى عام 1964 م.، كانت مكاتب المجلس المحلّيّ قائمة في مبنى تابع لوصيّ على أملاك الغائبين، استُخدم الطّابق الأرضيّ منه، الّذي كان سابقًا معصرة زيت، مقرًّا للعمل. كما وُجدت قاعة مخصَّصة لاجتماعات المجلس، إلّا أنّها لم تكن مجهّزة بالأثاث اللّازم. أُتيح الوصول إلى المكاتب عبر سُلّم خشبيّ، في حين كانت الدّرجات الأماميّة للمبنى في حالة إنشائيّة غير مستقرّة. على هذه التّحدّيات أُدرج الموقع ضمن المخطّط المستقبليّ ليكون مقرًّا دائمًا للمجلس، نظرًا لقُربه من المركز التّجاريّ والمدنيّ المزمع إنشاؤه.
المغار في منتصف القرن العشرين
تُضيء دراسة ميدانيّة أعدّها الباحث اليهوديّ سمحة يوم-طوف، عام 1964 م.، على جوانب متعدّدة من حياة القرية وتشكّلاتها العمرانيّة، والمعيشيّة، والتّنظيميّة، والمناخيّة، بالاستناد إلى مسوحات ميدانيّة وخرائط ومعطيات سكّانيّة واقتصاديّة دقيقة. تُظهر هذه الدّراسة كيفيّة تكيُّف سكّان المغار مع الطّبوغرافيا الجبليّة، من خلال أنماط بناء معيّنة، وكيف انعكس التّنوّع الطّائفيّ على توزيع السّكّان جغرافيًّا ومهنيًّا، كما توثّق الخصائص المناخيّة والبيئيّة الّتي أثّرت في معيشة النّاس وبنية الحيّز. تستعرض الفقرات التّالية أبرز ما توصّلت إليه هذه الدّراسة في عدّة محاور رئيسة وفرعيّة.
تميّزت المغار، حتّى منتصف القرن الميلاديّ العشرين، بطابع عمرانيّ متراصّ ومتكامل مع الطّبيعة الجبليّة؛ إذ بُنيت البيوت القديمة بالحجارة المحلّيّة، من دون تخطيط حضريّ مُسبّق، بل وَفقًا لاحتياجات العائلات وتوزيعها الطّبيعيّ على مدرّجات صخريّة منحوتة. وقد أتاح ذلك استغلال المساحات الضّيّقة للزّراعة والبناء، بينما كانت الأسطح المسطّحة تُستخدم للتّخزين أو للنّوم صيفًا.
اقتصاديًّا، اعتمد السّكّان على الزّراعة وتربية المواشي مصدرًا أساسيًّا للمعيشة. وقد برزت زراعة كروم الزّيتون والتّين، إلى جانب تربية الماعز والأبقار، وانتشر إنتاج الحطب والفحم النّباتيّ. كما عُرف البعض من الأهالي بصناعات تقليديّة، مثل: النّجارة والبناء. ويُشير البحث إلى تأثير الانتماء الطّائفيّ على التّوزيع المهنيّ، إذ تَركّز المسيحيّون في المناطق الوسطى وامتهنوا التّجارة، بينما استقرّ الدّروز في المناطق المرتفعة واشتغلوا بالأرض.
وإذ تقع المغار ضمن نطاق مناخ البحر المتوسّط المعتدل؛ كان معدّل درجات الحرارة في شهر آب يصل إلى نحو 26 درجة مئويّة، فيما ينخفض في كانون ثانٍ إلى نحو 10 درجات. وتُشير بيانات البحث إلى أنّ معدّل كمّيّة الأمطار السّنويّة في الفترة 1921-1963 تراوح بين 500 و-600 ملم، مع معدّل 55 يومًا ممطرًا في السّنة.
وفي الجانبّ الصّحّيّ اتّضح أنّ معظم البيوت كانت تفتقر إلى شبكة مياه داخليّة، إذ وُجد فقط 128 بيتًا من أصل 719 بيتًا تتوفّر فيه إمكانيّة استخدام المياه داخل المنزل، في حين اضطُرّ الآخرون إلى الاعتماد على مصادر خارجيّة، كآبار جماعيّة أو نقل المياه يدويًّا من الينابيع المجاورة.
كانت الخدمات الطّبّيّة، حتّى عام 1964 م.، متواضعة ومحدودة إلى حدٍّ كبير؛ إذ لم تتوفّر في القرية عيادات ثابتة أو مراكز صحّيّة متخصّصة، ما جعل السّكّان يعتمدون، بصورة أساسيّة، على العلاجات الشّعبيّة والتّقليديّة، وهو ما أدّى بدَوره إلى ظهور حالات متفرّقة من الأمراض النّاتجة عن سوء التّغذية ومشكلات المياه غير المراقَبة. في المقابل، توفّرت في تلك الفترة خدمات أوّليّة من خلال فرعَين تابعين لصندوق المرضى الوطنيّ، تضمّنا زيارات أسبوعيّة للطّبيب، إضافةً إلى ممرّضتَين من خارج القرية تعملان في مجال تضميد الجروح لساعات محدودة. كما عملت في القرية محطّة رعاية الأمّ والطّفل التّابعة لوزارة الصّحّة، إلى جانب زيارة شهريّة لطبيب أطفال من طبريّة، فيما عملت ممرّضة من ترشيحا بشكل يوميّ (عدا السّبت). وكانت حوالي نصف حالات الولادة تجري داخل القرية بمساعدة قابلات محلّيّات، في حين جرت الولادات المتبقّية في مستشفيات صفد وطبريّة وحيفا، خصوصًا في الحالات الّتي احتاجت إلى تدخُّل طبّيّ متقدّم.
كان تدبير شؤون المنزل وإدارته يتمّ داخل الحيّز المنزلي المباشَر؛ إذ اضطلعت النّساء بأدوار محوريّة في تنظيم المعيشة، بما في ذلك إعداد الطّعام، وتخزين الموادّ، وتربية الأطفال. وتُظهر الصّور الميدانيّة اعتماد معظم البيوت على ساحات داخليّة مفتوحة، تُستخدم لأغراض منزليّة متعدّدة، ما يعكس نمطًا من الاكتفاء الذّاتيّ المتكامل.
ومع التّغييرات الّتي طرأت على الاقتصاد الوطنيّ وسوق العمل، حدثت تحوّلات في المهن ومستوى دخل السّكّان. توجّه عدد كبير من أبناء القرية للعمل في الأسواق القريبة خارجها، وليس دائمًا بسبب نقص الأراضي الزّراعيّة لديهم. وكان عدد العمّال المشتغلين في الزّراعة آخذًا بالتّناقص، في حين ارتفعت نسبة الموظّفين لدى أبناء الطّائفة الدّرزيّة تحديدًا.
وبخصوص التّعليم، فإنّ اكتساب العِلم أصبح بابًا مفتوحًا على العالم الخارجيّ للكثيرين من سكّان القرية، مع أنّ عدد المتعلّمين من أبناء الجيل الأكبر محدود جدًّا. كذلك، فإنّ المكتبات في القرية لم تتطوّر بصورة كبيرة، وعدد الكتب قليل نسبيًّا.
حتّى السّتّينيّات، توفّرت في القرية البعض من المؤسّسات العامّة الّتي شكّلت فضاءات اجتماعيّة وثقافيّة، كان أبرزها النّادي الّذي استُخدم ملتقًى لأبناء القرية من مختلف الأعمار. كما شهدت القرية بناء كنيسة كاثوليكيّة جديدة حلّت محلّ الكنيسة القديمة. أمّا الخلوة القائمة فليست بارزة من النّاحية المعماريّة، وهي تشبه المؤسّسات الدّرزيّة التّقليديّة الأُخرى. وكما هو الحال، بُنيت الخلوة بين البيوت السّكنّيّة، وفي الغالب شُيّدت في المكان الأكثر كثافة سكّانيّة في القرية، بحيث تشكّل المنازل من حولها درعًا واقيًا لها. وكان المسجد قائمًا، آنذاك، إلى جوار مقبرة الطّائفة المسلمة وفي القرب من مناطق سكناها. يُشار إلى أنّ المسجد لم يحمل طابعًا معماريًّا مميّزًا يُظهر هويّته الدّينيّة، لكنّه بدا مبنًى سكنيًّا عاديًّا.
المغار اليوم
مع مرور العقود، شهدت المغار تطوّرًا ملحوظًا في بنيتها الإداريّة والعمرانيّة، وتحوّلت من قرية صغيرة إلى المدينة الدّرزيّة الرّسميّة الأولى عام 2021 م.، إثر استيفائها المعايير السّكّانيّة والتّنظيميّة الّتي تعتمدها وزارة الدّاخليّة الإسرائيليّة. لم تَعُد مكاتب البلديّة قائمة في المبنى القديم المذكور، لكنّها انتقلت إلى مبنى حديث في حيّ رأس الخابية، يُمثّل مركز المدينة الإداريّ الجديد.
أحياء المدينة
تتوزّع الأحياء السّكنيّة في المغار وَفقًا لتقسيمات جغرافيّة وطائفيّة تعبّر عن بنية المدينة الاجتماعيّة المتعدّدة. أبرز هذه الأحياء: الحيّ الغربيّ الّذي تقطنه غالبيّة درزيّة؛ الحيّ الشّماليّ الّذي يضمّ معظم السّكّان المسلمين؛ الحيّ الشّرقيّ الّذي يغلب عليه الطّابع الدّرزيّ أيضًا؛ والحي الجنوبيّ الّذي يسكنه عدد كبير من أبناء الطّائفة المسيحيّة. كما يُعرف في المغار حيّ المنصورة، الواقع شرق المدينة، وهو موقع أثريّ قديم تعود جذوره إلى مئات السّنين، وتُعرف بقاياه اليوم بِاسم “خربة المنصورة”. إضافةً إلى ذلك، تُعرف أحياء، مثل: رأس الخابية، الّذي يضمّ المنطقة الصّناعيّة، الجَمَشة وخلّة الشّريف بطابعها المختلط، إذ يقطنها سكّان من مختلف الطّوائف، إلى جانب الأحياء: البِسباس، البصّ، الحريق والغدران. وتُشير تسميات، مثل: “الحارة”، “الورشة” و-“الميدان” إلى مناطق تاريخيّة داخل النّسيج العمرانيّ، استُخدمت لأغراض تجاريّة واجتماعيّة كمواقع للسّوق أو للاحتفالات الشّعبيّة وسباقات الخيل.
العائلات
تنقسم العائلات البارزة في المغار إلى ثلاث مجموعات رئيسة وَفقًا للتّركيبة السّكّانيّة: درزيّة، إسلاميّة ومسيحيّة. من بين العائلات الدّرزيّة الكبيرة نذكر: غانم، عرايدي، دغش، قزل، عزّام، أبو جنب، حامد، طريف، سعد وسرحان، إلى جانب عائلات أصغر نسبيًّا، مثل: طربوش، مصالحة، عساقلة، فوارسة، عثمان، أيّوب، أبو زيدان، أصلان، خليفة، أبو غوش، عمّار، عمران، بلعوس، شوفاني، نبواني، عزّ الدّين، فتفوت، صالح، قطيش، كنج، معدّي، خير، هنو، صلاح الدّين، فاضل، وغيرها. أمّا في أوساط المسلمين، فتبرز العائلات: عبّاس، سلامة، شيني، طوافرة، أبو نمر، أبو عيد، مهرة، خرانبة وغيرها. وفي الطّائفة المسيحيّة تتوزّع العائلات بين عدد كبير من الأسماء المعروفة، منها: أبو زهيّة، أبو شقارة، ريناوي، خوري، مزلبط، جهشان، بطرس، تلحمي، عرطول، داود، قرواني، مطانس، موسى، يعقوب، أبو حنين، الياس، عودة، بشارة وغيرها.
جهاز التّعليم
تضمّ المغار جهازًا تعليميًّا متطوّرًا يشمل ستّ مدارس ابتدائيّة، مدرستَين إعداديّتَين، ومدرستَين ثانويّتين، حيث يتعلّم الطّلّاب من الطّوائف الثّلاث في بيئة تعليميّة مشتركة تضمّ الذّكور والإناث على حدّ سواء. كما تحتضن المدينة مدرسة للتّعليم الخاصّ، ومركز تأهيل مهنيّ “مِفْتان” تُعنى بدمج الطّلّاب الّذين يواجهون صعوبات في الأُطر التّعليميّة التّقليديّة. ويعمل المركز الجماهيريّ (المتناس) فيها على عدّة أنشطة، إلى جانب نشاطات علميّة وتكنولوجيّة في مركز “أشكول پايس”.
يواكب هذا التّقدّم العمرانيّ والثّقافيّ والاجتماعيّ تحوّل ديموغرافيّ متواصل، يعكس بدَوره صورة الحياة الاجتماعيّة في المدينة المعاصرة. اليوم، يبلغ عدد سكّانها نحو 23,468 نسمة، يتوزّعون على ثلاث طوائف رئيسة؛ يُشكّل الدّروز الأكثريّة بنسبة تُقارب 57% من إجماليّ السكّان، يليهم المسلمون السّنّة بنسبة 22%، ثمّ المسيحيّون بنسبة تُقدّر بحوالي 21%. ويُعدّ هذا التّنوّع الطّائفيّ واحدةً من السّمات المركزيّة الّتي تميّز النّسيج الاجتماعيّ في المدينة، الّذي يتجلّى في التّعايش المشترك والمؤسّسات التّربويّة والثّقافيّة المتعدّدة الّتي تخدم مختلف مكوّنات المجتمع المحلّيّ.
__________________________________________
[1] جبل حزّور أو حازور؛ من الجبال البارزة في سلسلة جبال الشّاغور، يقع في قلب الجليل الأسفل بارتفاع يبلغ 584 مترًا فوق سطح البحر.
[2] Palmer, E.H., The survey of Western Palestine : Arabic and English name lists collected during the survey , vol. 1 (London: Committee of the Palestine Exploration Fund, 1881), p. 131.
[3] Rhode, H., Administration and Population of the Sancak of Safed in the Sixteenth Century (PhD diss., Columbia University, 1979), p. 145.
[4] Barron, J.B., ed.. Palestine: Report and General Abstracts of the Census of 1922 (Government of Palestine, 1923), p. 39.
***
للاستزادة والتّوسُّع:
- الدّبّاغ، مصطفى. بلادنا فلسطين. كفر قرع: دار الهدى، 2006، ج. 6، ق. 2، ص. 417-420.
- عرّاف، شكري. زمكانيّة المسيحيّة في الأراضي المقدّسة. معليا: مركز الدّراسات القرويّة، 2005.
- وزارة الدّاخليّة في دولة إسرائيل، المغار: مسح وتخطيط قرية درزيّة في الجليل، إعداد: سمحة يوم-طوف، القدس: وزارة الدّاخليّة – قسم الأقلّيّات، كانون أوّل 1964.
- موقع “بلديّة المغار”: رابط.
- “المغار” (2024، تشرين أوّل 27)، في ويكيبيديا الموسوعة الحرّة: رابط.
- סאלח, שכיב. “מע’אר – אנטומיה של כפר מעורב”, קתדרה 81, ספטמבר 1996, עמ’ 94-75.
- פרופיל מע’אר באתר הלמ”ס: קישור.
- Barron, J. B., ed.. Palestine: Report and General Abstracts of the Census of 1922. Government of Palestine, 1923.
- Palmer, E.H.. The survey of Western Palestine : Arabic and English name lists collected during the survey. vol. 1, London: Committee of the Palestine Exploration Fund, 1881.
- Rhode, H.. Administration and Population of the Sancak of Safed in the Sixteenth Century. PhD diss., Columbia University, 1979.