تعدّ معركة عنجر واحدة من أبرز المحطّات الفاصلة في تاريخ الأمير فخر الدّين المعنيّ الثّاني (فترة الحكم: 1590-1635 م.)؛ إذ خاضها في مواجهة مصيريّة ضدّ والي الشّام مصطفى باشا الخنّاق، وجيوش يوسف ابن سيفا وعدد من الأمراء اللّبنانيّين المناوئين لبني معن، وعلى رأسهم آل حرفوش. وقعت المعركة في الأوّل من تشرين ثانٍ عام 1623 م. بالقرب من بلدة مجدل عنجر، في لبنان، وكانت نتائجها انعطافة حاسمة في تاريخ جبل لبنان ونقطة تحوُّل في مسار السّيطرة السّياسيّة في المنطقة.
دخل الأمير فخر الدّين هذه المعركة باستراتيجيّة عسكريّة مُحكمة؛ إذ تمكّن من تحقيق نصر ساحق على قوّات والي الشّام وحلفائه. وبعد هذا الانتصار، أصدر السّلطان العثمانيّ، مراد الرّابع، فرمانًا اعترف فيه بولاية فخر الدّين الممتدّة من حلب، شمالًا، حتّى العريش، جنوبًا. كما منح الأمير فخر الدّين لقب “أمير جبل لبنان وصيدا والجليل”، ما أضفى شرعيّة رسميّة على سُلطته وأبرَز مكانته بوصفه حاكمًا قويًّا استطاع فرض سيطرته على مساحات شاسعة في شرق المتوسّط. وهكذا، لا تقتصر أهمّيّة معركة عنجر على نتائجها العسكريّة وحسب، بل تتعدّاها إلى أبعاد سياسيّة واستراتيجيّة جعلت منها مَعلمًا بارزًا في تاريخ لبنان؛ إذ أثبتت قدرة الأمير فخر الدّين على تحدّي القوى العثمانيّة والإقليميّة، معزّزًا بذلك تطلّعات سكّان المنطقة للاستقلال والحرّيّة.
أسباب معركة عنجر (1623 م.):
كانت معركة عنجر نتاج تراكمات من التّوتّرات السّياسيّة والاجتماعيّة الّتي سادت المنطقة، في تلك الفترة، وشكّلت أسبابها مزيجًا من العوامل الدّاخليّة والخارجيّة الّتي دفعت بالصّدام إلى حتميّته؛
- تآمر رجال الإقطاع وحسدهم للأمير فخر الدّين:
برز الحسد دافعًا رئيسًا وراء تحرّكات البعض من أمراء الإقطاع اللّبنانيّين ضدّ الأمير فخر الدّين، الّذين لم يستطيعوا تقبُّل نفوذه المتزايد وشعبيّته المتنامية. كان من أبرز هؤلاء آل حرفوش الّذين سعوا، في أثناء غياب الأمير فخر الدّين في توسكانا، إلى استغلال الفراغ السّياسيّ لتأليب القوى المحلّيّة وتشكيل جبهة قوّيّة تهدف إلى إضعاف سُلطته؛
- تحرّكات آل حرفوش ضدّ أهل الشّوف:
اتّخذ آل حرفوش خطوات استفزازيّة تهدف إلى التّضييق على نفوذ فخر الدّين، كان أبرزها منع أهالي الشّوف من زراعة أراضيهم في سهل البقاع، وهو ما كان يشكل مصدرًا هامًّا للرّزق والاقتصاد لسكّان المنطقة. هذا الإجراء زاد من حدّة التّوتّر وأشعَل فتيل النّزاع بين الطّرفَين؛
- الدّور العثمانيّ وتحيُّن الفرص للإطاحة بفخر الدّين:
شكّلت الدّولة العثمانيّة طرفًا أساسيًّا في أسباب هذه المعركة؛ فقد أبدت قلقًا متزايدًا من نفوذ فخر الدّين الّذي اتّسم بالاستقلاليّة المتزايدة والتّوسُّع الإقليميّ. استغلّ العثمانيّون وجود معارضين محلّيّين للأمير، وحرّضوا عملاءهم ووُلاتهم عليه، متذرّعين بأسباب واهية لتبرير تحرّكاتهم العسكريّة ضدّه.
كانت هذه العوامل مجتمعةً كفيلةً بجعل المواجهة حتميّة؛ إذ لم يكن الأمير فخر الدّين ليقبل المساس بسيادته أو التّضييق على أهل منطقته، ما أدّى إلى اندلاع معركة عنجر فكانت صدامًا مصيريًّا أثبت فيه الأمير قوّته وقدرته على مواجهة خصومه، سواءٌ من الدّاخل أو الخارج.
تفاصيل المعركة
في عام 1623 م.، قاد الأمير فخر الدّين المعنيّ الثّاني حملةً إلى جنوب الجليل بهدف فرض النّظام وإعادة الأمن إلى المنطقة. استغل يونس الحرفوشيّ هذه الحملة لتأليب الأوضاع ضدّ الأمير، فتعاون مع والي الشّام، الخنّاق باشا، الّذي انضمّ إليه يوسف سيفا وكُرد حمزة، لتشكيل تحالف عسكريّ يسعى إلى القضاء على نفوذ الأمير فخر الدّين. وقع اللّقاء الحاسم قرب نبع عنجر في مواجهة مصيريّة.
كان وُلاة الدّولة العثمانيّة في بلاد الشّام يراقبون تحرّكات الأمير فخر الدّين بعين الحسد والرّيبة، إذ رءوا في نفوذه المتنامي تهديدًا مباشرًا لسُلطته. سارع هؤلاء الوُلاة إلى استغلال أيّ فرصة للإيقاع به، متّهمينه بالخروج عن الدّين الإسلاميّ ومساعدته للمسيحيّين ضدّ المسلمين، وهي اتّهامات هدفت إلى تبرير حملاتهم العسكريّة ضدّه أمام السّلطان العثمانيّ.
في مساء يوم الأحد، 30 تشرين أوّل 1623 م.، وصل فخر الدّين مع جيشه إلى ساحة المعركة. تألّف جيشه من أربعة آلاف مقاتل، إلى جانب ألف مقاتل من الشّهابيّين، بقيادة الأمير عليّ الشّهابيّ. نزلت قوّات الأمير في جوار جسر القرعون، في حين كان جيش والي الشّام يضمّ أكثر من اثني عشر ألف مقاتل، مؤلّف من فرق الإنكشاريّة، التّركمان، العربان، وقوّات آل سيفا وآل حرفوش.
كان الأمير فخر الدّين يدرك أهمّيّة المبادرة في مواجهة جيش يفوقه عددًا وعتادًا، لذلك اعتمد على خطة تكتيكية دقيقة تهدف إلى:
- تقسيم قواته الى أربع مجموعات قتاليّة، ما أتاح مرونة أكبر في إدارة المعركة؛
- استدراج خيّالة العدوّ، بهدف عزلها عن المشاة الّذين يشكّلون الدّعم الأساسيّ لها؛
- تطويق قوّات العدوّ، إذ عمد إلى محاصرة الخيالة بعد فصلها عن المشاة، ومن ثم القضاء عليها.
نجحت خطّة الأمير فخر الدّين في تحقيق أهدافها؛ إذ تفكّكت قوّات والي الشّام واضطربت صفوفها. بعد قتال شرس، أُرغمت جيوش الوالي على الانسحاب، مُتَكبّدة خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات. كان هذا النّصر الحاسم دليلًا على عبقريّة الأمير فخر الدّين العسكريّة، وقدرته على مواجهة التّحدّيات رغم تفوُّق خصومه عددًا وعتادًا. أسهم هذا الانتصار في تعزيز مكانة الأمير بوصفه قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا لا يُستهان به. كما أثبت للعثمانيّين وللمعارضين المحلّيّين أنّ محاولاتهم لإضعافه ستواجَه بردّ حازم، ما عزّز شرعيّته ونفوذه في جبل لبنان وخارجه.
بعد الانتصار السّاحق الّذي حقّقه الأمير فخر الدّين المعنيّ الثّاني في معركة عنجر، أصبح آل معن، ومعهم حلفائهم من آل شهاب، قادرين على فرض نظامهم بسطوة واضحة. لم يقتصر هذا النّفوذ على الزّعامات القبليّة الممتدّة من شمال طرابلس إلى جنوب فلسطين، آنذاك، بل امتدّ ليشمل التّأثر في تفاصيل الحكومة العثمانيّة في المنطقة، الأمر الّذي عزّز موقعهم بوصفهم قوّة إقليميّة ذات شأن.
نتيجة لانتصارات آل معن، كافأ السّلطان العثمانيّ الأمير فخر الدّين فأقرّه على ولاية الشّوف ولقّبه بـِ-“سُلطان البرّ” في تعبير عن هيبته وقوّته. أعترف السّلطان رسميًّا بسيطرة فخر الدّين على المنطقة الممتدّة من طرابلس، شمالًا، حتّى يافا، جنوبًا، ما أعطى سُلطته بعدًا قانونيًّا ودبلوماسيًّا عزّز مكانته الإقليميّة.
تألّقت شخصيّة الأمير فخر الدّين بعد معركة عنجر؛ إذ أثبت شجاعته وعبقرّيته في التّخطيط والتّنظيم العسكريّ. برز تسامحه بعد المعركة فكان صفة استثنائيّة في زمن شهد الكثير من الصّراعات العنيفة. أظهر الأمير روح القائد النّبيل حين تعامل بكرامة واحترام مع خصمه، والي الشّام مصطفى باشا، الّذي وقع في أيدي رجال الأمير. فبدلًا من معاملته على أنّه أسير حرب، استقبله الأمير ضيفًا رفيع الشّأن، وأكرم وفادته في بعلبك، ما أكسب الأمير احترامًا إضافيًّا من الأعداء والحلفاء، على حدّ سواء.
عقب المعركة، أصدر الأمير فخر الدّين أوامر بعزل رجال مصطفى باشا من مناصبهم واستبدالهم بحلفائه وأصدقائه، ما عزّز سيطرته الإداريّة في المنطقة. أطلق الأمير سراح مصطفى باشا، بعد استعادة كرامته واحترامه، ليعود الأخير إلى دمشق، مقرّ ولايته، لكن بروح منكسرة وهزيمة واضحة.
* * *
للاستزادة والتّوسُّع:
- ركن، عميد. فخر الدّين مؤسّس لبنان الحديث. عكّا: مكتبة ومطبعة السّروجي، 1978.
- أبو زكي، فؤاد. المعنيّون من الأمير فخر الدّين الثّاني المعنيّ التّنّوخيّ إلى الأمير سلطان الأطرش المعنيّ الثّاني. الشّوف: الدار التّقدّميّة، 2008.
- أبو صالح، عباس؛ مكارم، سامي. تاريخ الموحّدين الدّروز السّياسيّ في المشرق العربيّ. بيروت: د. ن.، 1981.
- زهر الدّين، صالح. تاريخ المسلمين الموحّدين الدّروز. بيروت: المركز العربيّ للأبحاث والتّوثيق، 2007.
- فلاح. سلمان؛ وآخرون. تاريخ الدّروز. القدس: وزارة المعارف والثّقافة، 1988.