اندلعت معركة “عين دارة” عام 1711 م. قُرب بلدة عين دارة (وتُكتب عين دارا أيضًا) اللّبنانيّة، على بُعد حوالي 30 كيلومترًا جنوبَ-شرقَ بيروت. هذه المعركة، الّتي خاضها تحالُفان من القوى اللّبنانيّة، كانت من أبرز معالم الصّراعات القديمة بين قبائل قَيْس ويَمَن. أمّا نتائج المعركة، الّتي رجحت كفّتها لصالح القيسيّين، فقد شكّلت نقطة تحوُّل حاسمة في تاريخ لبنان، وتأثيرها في لبنان الحديث لم يزل واضحًا حتّى يومنا هذا. ويبدو أثَر هذه النّتائج في الدّروز، خلال القرنين الميلاديّين الثّامن عشر والتّاسع عشر، جليًّا وواضحًا؛ إذ وقفت القوّات الدّرزيّة في طرفَي المواجهة. وقد ضعفت سيطرة الدّروز في جبل لبنان كثيرًا في أعقاب هذه المعركة، وبعد حوالي 150 عامًا من الوهَن اضمحّلت سيطرتهم تمامًا.[1]
تعود جذور الصّراع بين قبائل قَيْس ويَمَن إلى شبه الجزيرة العربيّة، وهي تسبق ظهورَ الإسلام. أمّا قبيلة يَمَن فترجع في أصلها إلى منطقة قحطان، جنوبَ شبه الجزيرة العربيّة، في حين أنّ قبيلة قَيْس تقع أكثر شمالًا وأصولها الدّقيقة غير معروفة، وهي تُنسب إلى منطقة تمتدّ عبر سورية وبلاد الرّافدَيْن. ومع مرور السّنين لم يعد اصطلاحا “قَيْس” و-“يَمَن” مقصورَيْن على القبائل الأصليّة؛ إذ أصبحا يمثّلان ائتلافات تعتمد ميثاقَ ولاء قبَليّ فوق-أيديولوجيّ وفوق-دينيّ، بعد أن انضمّت مجموعات مختلفة من المهاجرين إلى القبيلتَيْن القديمتَيْن وأصبحت جزءًا منهما. وقد أدّى توسُّع الفتوحات الإسلاميّة إلى “تصدير” الصّراع من شبه الجزيرة العربيّة إلى سورية الكبرى والعراق، وإلى أندلس-إسبانيا الحاليّة ولفترة قصيرة إلى صقلّيّة أيضًا.[2]
الحقيقة إنّ هيمنة الدّروز في جبل لبنان والمناطق المجاورة له ضعفت بعد إعدام الأمير فخر الدّين الثّاني المعنيّ، عام 1635 م.، وذلك عقب استسلامه في معركة وقعت قبل ذلك بعامَيْن. لم يتمكّن خليفتاه، ملحم وقرقماز الثّاني، من فرض سُلطتهما على أصحاب الأراضي الدّروز في جبل لبنان ووادي التّيم، ثمّ إنّ الوَحدة الّتي ميّزت ذروة مجد آل معَن، في نهاية القرن الميلاديّ السّادس عشر وبداية القرن الميلاديّ السّابع عشر، تصدّعت، وأفسح تصدُّعها المجال أمام نشوب صراعات مختلفة بين تحالُفات درزيّة، وفيما بعد بين تحالفات متعدّدة الأديان، وَفقًا للتّقسيم القديم إلى قبيلتَي قَيْس ويَمَن. توفّي أحمد المعنيّ عام 1697 م. من دون وريث فعليّ يُجمع عليه أبنائه، فانتقلت السّيطرة في جبل لبنان إلى “آل شهاب”، وهم ذوو القربى المسلمون لآل معن وتجمعهما صِلة النّسب.[3]
حكم الأمير بشير الشّهابيّ الأوّل جبل لبنان حتّى عام 1707 م. وفضّل في نهجه السّياسيّ مؤازرة الحزب القيسيّ، في حين حظي الحزب اليمنيّ بدعم الحكومة العثمانيّة المركزيّة ووالِيَي دمشق وصيدا. نجلُه، حيدر الشّهابيّ، حكم من بعده واستمرّ سائرًا على خطى أبيه في دعم الحزب القيسيّ، وكانت هذه خطوة أثارت معارضة الحكّام العثمانيّين. وفي عام 1709 م. حاول والي صيدا، بشير باشا، عزل الأمير حيدر وقد عيّن مكانه محمود أبو هرموش، من الحزب اليمنيّ. وانتقل حيدر وأنصاره القيسيّون إلى قرية غَزير، قُرب كسروان، حيث كانوا في حماية عشيرة “حْبيش” المارونيّة، في حين بقي الحزب اليمنيّ في جبل لبنان. لاحقًا داهم الحرموشيّون عَزير أيضًا، ممّا اضطرّ حيدر إلى الانتقال إلى قرية هرمل الشّيعيّة الواقعة في البقاع. وبعد أن دعت العشائر القيسيّة إلى إعادة حُكم حيدر الشّرعيّ إلى يده استقرّ الأخير مع أنصاره في رأس المتن، في رعاية عائلة “أبو لمع” الدّرزيّة، وكان ذلك عام عام 1711 م.، وهناك انضمّت إليهم قوّات إضافيّة وعائلات أُخرى تنتمي إلى حزب القيسيّين، وهي: جنبلاط، تلحوق، عماد، أبو نكد وعبد الملك. والِيا صيدا ودمشق عزّزا القوّات اليمنيّة، بقيادة أبو هرموش، بقوّاتهما الخاصّة، في حين تلقّت قوّات حيدر الشّهابيّ تعزيزات كبيرة من عشيرة “حرفوش” الشّيعيّة من بقاع لبنان.[4]
وفي العشرين من آذار 1711 م.، بينما كانت القوّات اليمنيّة المُعزَّزة تتقدّم في اتّجاه رأس المتن لشنّ هجمة كمّاشة (ضربة مزدوجة) على القوّات القيسيّة؛ شنّ حيدر الشّهابيّ هجومًا شاملًا مفاجئًا على المعسكر اليمنيّ الّذي تمَوْقَع في عين دارة. تسبّب القيسيّون في خسائر كبيرة في صفوف اليمنيّين، وكان بين الضّحايا سبعة من أرباب الأُسر الّذين سقطوا في المعركة، كما أُخذ أبو حرموش أسيرًا. وبعد هذا الانتصار السّاحق أرسل حيدر رسائل تصالحيّة إلى صيدا ودمشق من أجل إعادة النّظام، فقَبِلا قيادته، وعليه، كفل هذا القبول استمرار سيطرة آل شهاب.[5] في أعقاب نتائج هذه المعركة اضطرّت العشائر اليمنيّة إلى الهجرة من جبل لبنان، فما كان منها إلّا أن استقرّت في جبل حوران أسوةً ببقيّة العائلات الأولى الّتي هاجرت إلى هناك في نهاية القرن الميلاديّ السّابع عشر. في المدى البعيد يمكننا القول: إنّ معركة عين دارة أضعفت الدّروز في جبل لبنان ديموغرافيًّا وسياسيًّا بشكل كبير، وقد شكّل استمرار حُكم آل شهاب ارتقاءً للمسيحيّين الموارنة في جبل لبنان من النّاحية الدّيموغرافيّة، وهو منحى كان له تداعيات سياسيّة، في نهاية المطاف، تجسّدت في فقدان السّيطرة على جبل لبنان وانتقال مراكز الثِّقَل الدّيموغرافية والسّياسيّة الدّرزيّة إلى جبل حوران.[6]
_________________________________________
[1] Yusri Hazran, The Druze Community and the Lebanese State (London and New York: Routledge, 2014), 17-18.
[2] Hugh Kennedy, The Prophet and the Age of the Caliphates, The Prophet and the Age of the Caliphates, Fourth Edi (New York: Routledge, 2023), 15, 78-83.
[3] Kais Firro, A History of the Druzes (Leiden, Brill: 2015), 32.
[4] William Harris, Lebanon: A History, 600-2011 (Oxford: Oxford University Press, 2012), 108-14; Stefan Winter, The Shiites of Lebanon under Ottoman Rule, 1516–1788 (Cambridge: Cambridge University Press, 2010), 129-31.
[5] Harris, Lebanon: A History, 600-2011, 115-16.
[6] Firro, A History of the Druzes, 36-37.
***
للاستزادة والتّوسُّع:
- Firro, Kais. A History of the Druzes. Leiden: Brill, 2015.
- Harris, William. Lebanon: A History, 600-2011. Oxford: Oxford University Press, 2012.
- Kennedy, Hugh. The Prophet and the Age of the Caliphates. The Prophet and the Age of the Caliphates. Fourth Edi. New York: Routledge, 2023.
- Winter, Stefan. The Shiites of Lebanon under Ottoman Rule, 1516–1788. Cambridge: Cambridge University Press, 2010.
- Yusri Hazran. The Druze Community and the Lebanese State. London and New