مقام سيّدنا بهاء الدّين، عليه السّلام، في بيت جنّ

مقام سيّدنا بهاء الدّين، عليه السّلام، في بيت جنّ

للموحّدين الدّروز مقامات مقدّسة عديدة تنتشر في بلادنا وفي منطقة الشّرق الأوسط عامّةً، منها مقامات للأنبياء، عليهم السّلام، ومنها مراقدُ ومزارات للأولياء الصّالحين، رضوان الله عليهم. أمّا المرقد فهو مكان دفن الجثمان، وأمّا المقام والمزار فيحملان أثَر صاحبهما المعنويّ. هذه الأماكن الدّينيّة تُشكّل بؤرةً روحانيّةً، وفي زيارة النّاس إليها بُعدٌ عقائديّ تعبُّديّ ضارب في التّاريخ القديم.

في غُرّة القرن الميلاديّ الحادي عشر كانت بلاد صفد ومنطقة الجليل من أهمّ مراكز الدّعوة التّوحيديّة الّتي دخل فيها أتباع كثيرون من سكّان المنطقة، وأطلق سيّدنا بهاء الدّين، عليه السّلام، على مشايخها اسم “مشايخ آل تُراب”. وقد حظيت قرية بيت جَنّ الجليليّة برونق روحانيّ خاصّ لاحتضانها مقامًا مقدّسًا يتربّع فوق قمّة جبل حيدر، جنوب القرية، ويحمل اسم سيّدنا بهاء الدّين، عليه السّلام.

وبهاء الدّين هو أبو الحسن عليّ بن أحمد بن الضّيف، الطّائيّ نَسَبًا، السَّمّوقيّ[1] مولدًا، والفاطميّ سياسةً ومذهبًا، والمولود في حدود العقد السّابع من القرن الرّابع الهجريّ، وحمل لقب الأمير “سديد الدّولة”؛ تقلّد ولاية أفامية عام 406 هـ.، وكان واليًا على حلب حتّى سقوطها بيد المرداسيّين، عام 407 هـ.، وفي عام 408 هـ. عهد إليه الخليفة الفاطميّ، الحاكم بأمر الله، بولاية دمشق، إلّا أنّه لم يلبث أن عُزل. عاد بهاءُ الدّين إلى الواجهة السّياسيّة عام 415 هـ، حين أُوكلت إليه ولاية بلاد الشّام بأسرها، ما يعكس مكانته البارزة في السّياسة الفاطميّة، آنذاك، ودوره المحوريّ في إدارة شؤون المنطقة.

يُعدّ صاحب هذا المقام الشّريف شخصيّة تاريخيّة، دينيّة وروحانيّة لامعة، لها مكانة عظيمة في مذهب التّوحيد وعند طائفة الموحّدين؛ إذ كان له، عليه السّلام، دَوْر أساس في نشر دعوة التّوحيد الّتي انطلقت من بلاد مصر، زمنَ الدّولة الفاطميّة، لتصل إلى مختلف أقاليم العالم عبر دُعاتها المُخلصين. بصفته واحدًا من أئمّتها الكبار، تولّى بهاء الدّين رعاية هذه الدّعوة وقيادة المؤمنين المُهتدين إليها مدّةَ سبعة عشر عامًا. حمل لقب “المُقتنى”، وأعلن، عليه السّلام، إغلاق باب الدّعوة عام 1043 م.، إيذانًا بمرحلة جديدة في مسيرة الموحّدين. وبذلك توطّن الموحّدون الدّروز في ديار حلب وجبال الشّوف وشمال فلسطين، حيث أسّسوا مجتمعًا حافظ على تراثهم الرّوحانيّ والفكريّ عبر العصور.

المقام المذكور هو بناء حديث العهد، نسبيًّا، تُتوّجُه قبّة بيضاء حجريّة شامخة شُيّدت فوق مغارة صغيرة تفيض بالهيبة والسَّكينة. يدخل الزّائر إليها عبر مدخل ضيّق لا باب له، بُعيد نزوله بضع درجات من الجهة الشّماليّة. وتتناقل الرّواية، كما حفظها المشايخ المُعمَّرون، أنّ كتابات محفورة وُجدت قديمًا على عتبة عند باب المغارة المذكورة، لم يبقَ منها سوى الكلمتَين “عليّ المكنّى…”، وقد وجد رجال الدّين الأتقياء رابطًا عميقًا بين هاتين الكلمتَين وسيّدنا بهاء الدّين.

مع مرور الوقت، احتاج البناء العتيق إلى ترميم، فانهالت التّبرّعات وأبدى الجميع استعدادهم للتّطوّع، فبُدئ ببناء سور وجدران حول المقام، ثمّ بوشر بعمليّة البناء. وفعلًا، انتهى بناء العمارة الحديثة في تشرين أوّل عام 1992 م.، وذلك بفضل الأيادي البيضاء الّتي عملت على إتمام المشروع وإنجاحه، تبرّعًا لوجه الله عزّ وجلّ. ومن هذا الموقع المقدّس يمتدّ البصر، بين أشجار الملّ والسّنديان، نحو الغرب إلى البحر الأبيض المتوسّط، ونحو الشّرق إلى بحيرة طبريّة، ونحو الجنوب إلى جبال الجليل الأسفل.

ظلّ المقام الشّريف موضع اهتمامٍ ورعايةٍ من قِبل أهالي قرية بيت جنّ على مرّ السّنوات، حتّى أصبح رمزًا عميقًا للإيمان والرّوحانيّة في قلوبهم. ويعود الفضل في ذلك، بعد الله تعالى، إلى جهود مباركة بذلها رجال ونساء آمنوا برسالة التّوحيد، وكرّسوا حياتهم لخدمة هذا المكان المقدّس. في طليعة هؤلاء، كانت المرحومة المربّية الفاضلة الآنسة أنيسة صالح دبّور، رحمها الله، الّتي تركت بصمة لا تُنسى في مسيرة إعمار المقام. فقد نذرت نفسها، منذ عام 1930 م.، حتّى وفاتها عام 1989 م.، لخدمة المقام من دون مقابل، مدفوعةً بإيمانها العميق بالخالق ودين التّوحيد، وعملت بلا كلل على ترميمه ورعايته وصيانة المغارة، بل وأعادت إعمار الغرفتَين المحيطتَين به، ليظلّ هذا المكان بيتًا روحانيًّا عامرًا يجتذب القلوب المؤمنة.

كانت السّتّ أنيسة تشاهَد دائمًا في أرجاء القرية وهي تحمل كيسًا تضع فيه أغراض تفيد في ترميم المقام، حتّى أطلق عليها أهالي القرية لقب “أم كيس”، تقديرًا لتفانيها وتضحيتها. وكانت تصعد الجبل الشّاهق المؤدّي إلى المقام سيرًا على قدميها، وهي تحمل موادّ البناء والأدوات الأُخرى الّتي جمعتها في كيسها. واعترافًا بدورها الكبير وجهودها المبارَكة، اتّفق مشايخ الدّين في بيت جنّ على دفنها في رحاب المقام الشّريف، في مشهد يجسّد الإجماع على مكانتها، وهو ما وُثّق في رسالة مشايخ الدّين المؤرّخة في تاريخ 26/12/1988، والموقّعة من الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزيّة، فضيلة الشّيخ المرحوم أبي يوسف أمين طريف، رضي الله عنه.

لم يتوقّف إرث رعاية المقام عند السّتّ أنيسة، بل امتدّ مع ابنة شقيقها، المرحومة سميّة محمود صالح دبّور، الّتي استمرّت في خدمته حتّى عام 1994 م.، ومن بعدها الشّيخ أبو زياد كامل دبّور، رحمه الله، الّذي تولّى إدارة المقام الشّريف، بمساعدة المشايخ الأفاضل: الشّيخ يوسف فايز أسعد، الشّيخ كامل حرب، الشّيخ جميل زويهد، الشّيخ سعيد صلالحة، الشّيخ حرب حرب، الشّيخ كمال قبلان والشّيخ كمال أسعد طافش. وكان المرحوم الشّيخ كامل قد بادر، في عام 1989 م.، إلى جانب شخصيّات ومشايخ أبناء بلده، إلى تأسيس رابطة قانونيّة لرعاية مقام سيّدنا بهاء الدّين، عليه السّلام، وظلّ يُنتخَب رئيسًا لها دوريًّا حتّى وفاته عام 2011 م..

بشبكة معارفه الواسعة الّتي شملت رؤساء دولة وحكومة، وزراء، أعضاء كنيست، ورجال دين من مختلف أطياف المجتمع، سخّر الشّيخ كامل جهوده لخدمة مجتمعه والمقام الشّريف. لقد جعل من هذه الصِّلات وسيلةً لتحقيق مشاريع أساسيّة تعزّز مكانة المقام، فعمل على تأمين الموارد اللّازمة لبنائه، وفتْح الطّريق المؤدّية إليه، وتوفير خدمات الكهرباء والهاتف، ليبقى هذا الموقع المقدّس شاهدًا على روح العطاء والتّفاني في خدمة المصلحة العامّة.

أمّا بخصوص الزّيارة التّقليديّة إلى المقام فقد عُقد اجتماع تشاوريّ يوم 16 آذار 1996 م.، في منزل المرحوم الشّيخ أبي زياد كامل دبّور، بحضور نخبة من مشايخ الدّين وأئمّة بيت جنّ، وحُدّد بالإجماع يوم 25 تمّوز من كلّ عام موعدًا رسميًّا للزّيارة السّنويّة إلى مقام سيّدنا بهاء الدّين، عليه السّلام. لاحقًا، تبنّى رؤساء المجالس المحلّيّة الدّرزيّة القرار، خلال اجتماعهم في عكّا، في 14 تمّوز 1996 م.، ورفعوا طلبًا للاعتراف به عيدًا رسميًّا للطّائفة الدّرزيّة. وقد جرت الزّيارة الرّسميّة الأولى في تمّوز 1997 م.، بحضور الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزيّة، فضيلة الشّيخ موفّق طريف، ومشاركة مشايخ البلاد.

وبعد مداولات استمرّت عامَين لحلّ خلاف محلّيّ حول ترتيبات الزّيارة، صادقت المحكمة الدّينيّة، في 14 نيسان 1998 م.، على إنشاء “لجنة إدارة مقام سيّدنا بهاء الدّين”، برئاسة المرحوم الشّيخ أبي زياد كامل دبّور. وتقديرًا لجهوده في خدمة المقام، طلبت الأطراف في بيت جنّ إبقاء الشّيخ أبي زياد رئيسًا للّجنة مدى حياته. وبعد وفاته، قرّرت الهيئة الدّينيّة تخليد ذكراه بوضع حجر رخام على واجهة المقام، وتعيين الشّيخ أبي نزيه توفيق دبّور خلفًا له، استمرارًا لمسيرة العطاء.

واليوم، يمتدّ مقام سيّدنا بهاء الدّين، عليه السّلام، على مساحة تُقدّر بحوالي 15 دونمًا، تشمل البنية الرّئيسة للمقام والمناطق المحيطة به الّتي تمثّل مزيجًا من الجمال الرّوحانيّ والطّبيعيّ. يتضمّن المقام قاعات للصّلاة والتّأمّل، إلى جانب المغارة المقدّسة الّتي تُعدّ مركزًا روحانيًّا عميقًا. وقد حظي الموقع بتطوير مستمرّ، شمل تشييد بناء حديث وتنظيم المساحات الخارجيّة لتسهيل استقبال الزّوّار، بالإضافة إلى إنشاء مرافق خدميّة أساسيّة فيها كالكهرباء والمياه وطرق الوصول.

ومن المقامات الشّريفة المعروفة بِاسم سيّدنا بهاء الدّين، عليه السّلام، نذكر: مقام مولانا بهاء الدّين في شارون اللّبنانيّة وقد أُطلق عليه اسم “مقام شمليخ” أو “مقام الشّريف”، وهو مؤلّف من 17 غرفة تتوسّطها قاعة كبيرة طولها 20 مترًا وعرضها 12 مترًا ومفروشة بالسّجّاد؛ إضافةً إلى مقامه في شرق حبران، السّويداء، وهو يحتوي على ضريح يرمز إلى شخصيّة بهاء الدّين، ومقامه في عيحا، لبنان. وفي قاهرة مصر حيّ صغير يُعرف بِاسم “حارة بهاء الدّين” أو “حارة الرّيحانيّة”، ويبدأ من زقاق يتفرّع من شارع المعزّ لدين الله في القاهرة القديمة، ويضمّ هذا الحيّ مجموعة بيوت أثريّة أُقيمت على أنقاض مواقع عمرانيّة كان لها شأن أيّام الدّعوة التّوحيديّة، زمن الفاطميّين، ويعتقد أنّ بهاء الدّين كان هناك. 

______________________________________________

[1] نسبةً إلى سمّوقة، وهي قرية من أعمال حلب السّوريّة.

***

للاستزادة والتّوسُّع:

  1. الأشرفانيّ، محمّد، عمدة العارفين. د. م.: د. ن.، ج. 3، د. ت..
  2. البيطار، أمينة. موقف أمراء العرب بالشّام والعراق من الفاطميّين حتّى أواخر القرن الخامس الهجريّ. دمشق: دار دمشق للطّباعة والنّشر، 1980.
  3. صلالحة، مالك حسين. بيت جنّ عبر التّاريخ: بحث تاريخيّ، جغرافيّ واجتماعيّ. شفاعمرو: دار المشرق للتّرجمة والطّباعة والنّشر، 1993.
  4. أبو عزّ الدّين، نجلاء، الدّروز في التّاريخ. شفاعمرو-الرّامة: منشورات العرفان، د. ت..
  5. عمّار، يحيى حسين، تاريخ وادي التّيم والأقاليم المجاورة. ينطا: د. م.، 1985.
  6. مجموعة كتّاب. ميراث أب: في ذكرى المرحوم الشّيخ أبو زياد كامل دبّور رحمه الله، 1930-2011.
  7. ناطور، سميح. “مقامات سيّدنا بهاء الدّين”، العمامة 153 (تمّوز 2020).
  8. ناطور، سميح. “الشّيخ أبو زياد كامل دبّور وعائلته”، العمامة 84 (آذار 2008).
  9. ناطور، سميح. “لذكرى المرحوم الشّيخ أبو زياد كامل دبّور”، العمامة 107 (تمّوز 2012).

מבט על

הדרוזים בישראל

ההתיישבות הדרוזית בישראל נחשבת לשלישית בגודלה, מבחינת מספר התושבים, בעולם כולו. הדרוזים בישראל (בני דת הייחוד) מהווים עדה דתית מגובשת, המונה כ- 147 אלף בני אדם, שפתם הינה ערבית ותרבותם ערבית-ייחודית (מונותאיסטית). הדת הדרוזית מוכרת באופן רשמי, על ידי מדינת ישראל, מאז שנת 1957 כישות אחת בעלת בתי משפט והנהגה רוחנית משלה. הדרוזים בישראל חיים כיום בתוך עשרים ושניים כפרים הנפרשים בגליל, בכרמל וברמת הגולן. שני היישובים הדרוזים הגדולים ביותר מבחינת מספר תושבים הם ירכא (16.9 אלף תושבים) ודלית אל-כרמל (17.1 אלף תושבים).

0 K

דרוזים בישראל

0 +

תושבים בדאלית אלכרמל, היישוב הכי גדול בישראל

0

סטודנטים דרוזים בשנת הלימודים 2019/2020 במוסדות להשכלה גבוהה