الفيض الإلهيّ؛ نظريّة الفيض الأفلوطينيّة

الفيض الإلهيّ؛ نظريّة الفيض الأفلوطينيّة

مذهب التّوحيد وأُصول حكمته الشّريفة هُما استمرارٌ للحكمة اليونانيّة النّقيّة القديمة، وللحكمة العرفانيّة الهِرْمِسيّة، وللمدرسة الهيلينيّة-الأفلاطونيّة المُحْدَثَة. ومن عقائد هذا المذهب نظريّةُ الفيض الإلهيّ الّتي تُفسِّر خَلْقَ الموجودات وصِلة الوَصْل بين الله تعالى والعالَم والكون.

“الفيض الإلهيّ”، أو “الصُّدور”، هي نظريّة تشكّل جزءًا هامًّا من الفكر الإنسانيّ، فمنذ الأزل خطرت للعقل البشريّ أفكار وأسئلة عن صلة الله تعالى بالعالَم والكون، وعن كيفيّة بدء الخلق وصُدور العالَم والمخلوقات. غير أنّ العقل، بآليّاته المحدودة، لا يستطيع فهم الوجود الواجب والعالم الغيبيّ وتصوّره وإدراكه بشكل تامّ، فيظلّ يسعى في طلب الحقائق العالية، على قدر طاقته، رغم شعوره بالعجز والنّقصان، ثمّ بالحاجة إلى العَون والمَدّ والإرشاد؛ فمن يُعين العقل البشريّ غير مُبدعه؟

جذور نظريّة الفيض الإلهيّ تعود إلى القرن الميلاديّ الثّالث، وتُنسب إلى الفيلسوف المصريّ-اليونانيّ أفلوطين[1] (205-270 م.)،[2] زعيم الأفلاطونيّة المُحْدَثَة، والمعروف في المصادر العربيّة بلقب “الشّيخ اليونانيّ”. مَزَج أفلوطين فلسفة أفلاطون (427-347 ق. م.) المثاليّة، بفلسفة أرسطو (384-322 ق. م.) المادّيّة ، بفلسفة الرّواقيّين (مذهب الرّواقيّة)؛ فبعد أن مزجها جميعًا بثّ فيها روحًا صوفيّة، شرقيّة، هنديّة، وبنى أُسس الأفلاطونيّة الحديثة كما نعرفها اليوم.

تصوُّر للكثرة المُنبعثة عن الوَحدة

انشغل أفلوطين بإشكاليّة صُدور الكَثرة عن الواحد، وهي مسألة احتدم جدل الفلاسفة والمفكّرين حولها، على مرّ العصور. فطرح أسئلة في مواضع عدّة من تاسوعاته[3] يحاول أن يبحث، من خلالها، عن حلّ توفيقيّ يحفظ للإله الواحد البسيط (الله تعالى) تَعاليه القيميّ الرّوحانيّ، من ناحية، ويُفسّر صُدور الكَثرة (الكَثرة المُنبعِثة) عنه، من ناحية أُخرى. يقول أفلوطين في التّاسوعة الخامسة:

“ولكن كيف يمدُّنا بها؟ (يقصد العقل والنّفس والإحساس) أبمعنى أنّها كانت فيه أم بمعنى أنّها لم تكن فيه؟ ولكن كيف يمُدّ بما ليس لديه؟ وإن كانت فيه، فلا يكون هو بسيطًا. وإن تكن فيه، فكيف تنبعث الكثرة منه؟ فإنّا ربّما نُسلّم لِلواحد بأنّه ينساب فينبعث منه شيء بسيط، مع أنّا ما نبرَح نتساءل كيف يتمّ ذلك؟ وإنّ الأصل لِواحدٍ من الوُجوه جميعًا… ولكن كيف تنبعث منه أشياءُ كثيرة؟”.[4]

يمكن تحديد هويّة أفلوطين وملامحه، غير أنّها لم تزل غير مُثبتة إلى هذا الحين

ولإنّ الموجودات لا توجِد نفسَها بنفسِها، في رأيه، لكنّها تحتاج إلى علّة أولى توجِدها، وهي علّة أزليّة-أبديّة؛ فقد جَزَم أفلوطين بأنّ الموجودات كلَّها صَدَرت عن الواحد، هو الله سبحانه. لكنَّ مسألة أُخرى واجهته وهي: كيف تصدر الكثرةُ عن الواحد، مع أنّه (أي: الواحد) باقٍ في ذاته، لا يظهر فيه تعدُّد أو اختلاف؟ ثمّ ما حاجةُ الواحد الفائق الكمال، الّذي لا يحتاج إلى أحد، إلى إيجاد شيء آخر غير ذاته؟ لم يجد أفلوطين إجابة عن أسئلته في النّظرية القائلة إنّ الخلقَ وُجد من اللّاشيء؛[5] فقد كان مُدركًا أنّ الخلق يفترض سابق إرادة وسابق تفكير، وخلقُ العالم عن تفكير وإرادة يعني بالضّرورة أنّ الواحد متغيّر، وهذا مُحال.

أفلوطين والقدّيس أغسطينوس في محفورة قديمة (غيتي)

رغم توظيفه البراهين والأدلّة جميعها، واستنفاذه الإمكانات التّفسيريّة كلّها، عجز أفلوطين عن إيجاد حلّ توفيقيّ لهذه الإشكاليّة المعقّدة، الّتي هي تناقض في ظاهرها؛ وحكمة بالغة في باطنها. فما كان منه إلّا أن اتّجه ببصره صوب العالم الرّوحانيّ، فأغمض باصرة البدن، وفتح بصيرة القلب، وأخذ ينتظر الأنوار العلويّة كي يتّحد بها ويَكْتَنِه أسرارها، مُتّبعًا في ذلك نصيحة أفلاطون الحكيم: “لا تُفتّشوا عن الحقيقة في المحسوسات المتغيّرة، بل ارفعوا ألحاظ نفوسكم إلى عالَم المُثُل الثّابتة”، وفي ذلك يقول أفلوطين: ” فَلنشرئبَّ بنفوسنا إليه في تضرّعاتنا، فنستطيع، ما دُمنا على هذه الحال، أن نكون وُحِّدنا معه وحده في تضرُّعنا إليه”.[6]

وفي غمرة النّور الوجدانيّ، زعم أفلوطين أنّه توصّل إلى الكشف الصّوفيّ أربع مرّات في حياته كلّها، وكانت نظريّته حول الفيض الإلهي ثمرة هذه الاكتشافات الوَجديّة؛ الكون هو فيض عن الواحد المُطلق، مع نزعة إلى الرّجوع إليه. إنّ الله سبحانه، البارئ، هو خير محض[7] عند أفلوطين، وعنه تعالى فاض العقل الفعّال، وبتوسُّط العقل فاضت عن البارئ النّفس الكُلّيّة، وبتوسُّط النّفس فاضت الطّبيعة وما فيها من أشياء.

غلاف كتاب تاسوعات أفلوطين، ترجمه إلى العربيّة د. فريد جبر

يقول أفلوطين بتسلسل الموجودات من الواحد وَفق حركتَيْن: حركة هابطة قائمة، في الأساس، على تدرُّج من المبدأ الأوّل، مرورًا بعدد من الحلقات المتوسّطة (العقل، النّفس الكلّيّة، النّفس الفرديّة)، حتّى المادّة الّتي تُعدّ آخر الموجودات؛ وحركة صاعدة روحانيّة للنّفس الّتي ترتقي إلى الواحد وتتّحد به. هاتان الحركتان غير منفصلتَيْن، إنّهما وجهان لعمليّة ديناميّة واحدة. أمّا الفكرة الرّئيسة الّتي يهدف إليها أفلوطين من هذا الطرح فهي التّأكيد على حركيّة العالم، وعلى أنّ الموجودات، إذ تفيض من الواحد عبر وَحدات متدرّجة، من أشرفها إلى أخَسِّها وأدناها مرتبة وهي المادّة، لا تشغل المرتبة نفسها، وهو بذلك يتمايز عن العديد من المذاهب الفلسفيّة الّتي تقول بثبات العالم واشتراك كائناته في المرتبة نفسها.

نذكر اهتمام الفلاسفة المسلمون بنظريّة الفيض الأفلوطينيّة، لِما فيها من أهمّيّة بالغة في تفسير عمليّة الخلق وضمان الوحدانيّة وخصائص الألوهيّة وصفاتها؛ إذ إنّ الفيض (الصُّدور)، بوصفه نظامًا روحانيًّا، يعمل على تنظيم حركة الإنتاج من الواحد إلى بقيّة الأقانيم[8]، ويعمل أيضًا على إبقاء الواحد متماسكًا في وحدانيّته، محافظًا على مُفارقته للموجودات. يُعدّ الفارابيّ (260 هـ/874 م.-339 هـ/950 م.) أوّل من دشّن دخول هذه النّظريّة العالمَ الإسلاميّ.

_______________________________________________

[1] أفلوطين السّكندريّ؛ فيلسوف مصريّ الأصل، وُلد في مدينة ليكوبوليس، في مصر القديمة، حوالي عام 205 م.، أبو الأفلاطونيّة الحديثة، ويُعدّ من مُنظّري الطّريقة الصّوفيّة. كتاباته الميتافيزيقيّة شكّلت مصدر إلهام، على مرّ قرون، للكثيرين من وثنيّين ويهود ومسيحيّين ومسلمين وصوفيّين وغنوصيّين.

[2] تجدر الإشارة، في هذا المقام، إلى أنّ نظرية الفيض الإلهيّ ليست إبداعًا أفلوطينيًّا “أصيلًا”، لكنّها تطوير لبعضٍ من الأفكار الّتي وردت في المحاورات الأفلاطونيّة، وأفكار آمّونيوس ساكّاس، معلّم أفلوطين، إضافة إلى تضمُّنها ملامح وآثار الفكر الشّرقيّ.

[3] التّاسوعات؛ كتاب يضمّ مجموعة من النّصوص المنسوبة إلى أفلوطين، نسَّقها وجمَعها ونشَرها تلميذه فرفوريوس الصّوريّ (234-305 م.)، وهي تتألّف من أربع وخمسين مقالة متفاوتة في الطّول، وموزّعة على ستّ مجموعات، كلّ مجموعة منها مؤلّفة من تسعة أقسام.

[4] أفلوطين، تاسوعات أفلوطين. (ط. 1. بيروت: مكتبة لبنان،1997)، ص. 452.

[5] رفض أفلوطين نظريّة خروج العالم عن الله بطريقة الخَلْق؛ إذ إنّ الخلق يعني أنّ العالَم لم يكن من قبل، لكنّه انوجد بعد عمليّة الخلق فقط، فكانت له بداية في الزّمان. يقول أفلوطين: “…هذا وإنّنا إذا قلنا إنّ العالم حدَثَ في لحظة من الزّمن، وهو لم يكن موجودًا قبل ذلك، وضعنا بقولنا هذا عناية من نوع تلك الّتي وصفناها بأنّها عناية بالجزئيات، أعني علمًا سابقًا عند الله وحُسبانًا منه كيف يكون هذا العالم الكلّيّ، وعلى خير ما يمكن أن يكون” (انظر: أفلوطين، تاسوعات أفلوطين، الفصل الثّاني “في العناية” (المقال الأوّل)، ص. 199).

[6] أفلوطين، تاسوعات أفلوطين، ص. 430.

[7] أوّل مراتب الوجود عند أفلوطين هو الواحد الحقّ، ويُطلق عليه عدّة أسماء، منها: الإله الأعظم (انظر: المصدر نفسه، ص. 462)، الرّوح الحقّ (انظر: م. ن، ص. 321)، الله، الخير المحض (انظر: م. ن.، ص. 449)، الملأ الأعلى (انظر: م. ن.، ص. 443).

[8] أقانيم أفلوطين ثلاثة: الواحد، العقل، النّفس الكلّيّة.

* * *

للاستزادة والتّوسُّع:

  1. أفلوطين. تاسوعات أفلوطين. نقلها من اليونانيّة إلى العربيّة: فريد جبر، مراجعة: جيرار جيهامي وسميح دغيم. ط. 1. بيروت: مكتبة لبنان، 1997.
  2. بدويّ، عبد الرّحمن. أفلوطين عند العرب. القاهرة: مكتبة النّهضة المصريّة، 1955.
  3. بن دنيا، سعديّة. “نظرية الفيض الأفلوطينيّة في فلسفة الفارابي”، مجلّة العلوم الاجتماعيّة م. 4: ع. 6 (د. ت.)، ص. 116-128.
  4. بريهيه، إميل. تاريخ الفلسفة. ترجمة: جورج طرابيشي. ط. 2. بيروت: دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، 1988.
  5. الحمد، محمّد بن عبد الحميد. الأفلاطونيّة المُحدثة والتّوحيد الإسماعيليّ. قبرص: د. ن، 2003.
  6. الخوري، الياس فرح. الفارابي. جونيه: مطبعة المرسلين اللّبنانيّين، 1937.
  7. اليازجي، كمال؛ كرم، أنطون غطّاس. تراث العرب في العلم والفلسفة. بيروت: دار المكشوف، 1970.

מבט על

הדרוזים בישראל

ההתיישבות הדרוזית בישראל נחשבת לשלישית בגודלה, מבחינת מספר התושבים, בעולם כולו. הדרוזים בישראל (בני דת הייחוד) מהווים עדה דתית מגובשת, המונה כ- 147 אלף בני אדם, שפתם הינה ערבית ותרבותם ערבית-ייחודית (מונותאיסטית). הדת הדרוזית מוכרת באופן רשמי, על ידי מדינת ישראל, מאז שנת 1957 כישות אחת בעלת בתי משפט והנהגה רוחנית משלה. הדרוזים בישראל חיים כיום בתוך עשרים ושניים כפרים הנפרשים בגליל, בכרמל וברמת הגולן. שני היישובים הדרוזים הגדולים ביותר מבחינת מספר תושבים הם ירכא (16.9 אלף תושבים) ודלית אל-כרמל (17.1 אלף תושבים).

0 K

דרוזים בישראל

0 +

תושבים בדאלית אלכרמל, היישוב הכי גדול בישראל

0

סטודנטים דרוזים בשנת הלימודים 2019/2020 במוסדות להשכלה גבוהה