دار الحكمة (دار العِلم) في مصر

دار الحكمة (دار العِلم) في مصر

مُذ استقرّ سُلطانهم في أرض مصرَ أَوْلى الفاطميّون اهتمامًا عظيمًا للمنجَزات العلميّة والفكريّة، فضلًا عن الثّقافة المذهبيّة المتّصلة بالدّعوة الإسماعيليّة؛ إذ لم يكتفوا بإنجازهم العسكريّ في فتح باب مصرَ وبَسْط سيادتهم عليها، لكنّهم أنشأوا الدّعائم الّتي أسهمت في عُلوّ صيتهم وحُسن سمعتهم في ميدان العلم والمعرفة، وكانت “دار الحكمة” واحدةً من أقوى تلك الدّعائم.

في معرض حديثه عن نشأة مدارس مصر وتطوّرها يقول المؤرّخ الكبير أحمد بن عليّ المقريزيّ في الخِطط: “وأمّا في مصر فإنّها كانت حينئذٍ بِيَد الخلفاء الفاطميّين ومذهبُهم مخالف لهذه الطّريقة (يقصد المدارس)، وإنّما هُم شيعة إسماعيليّة…”. وفي الرّوضة البهيّة الزّاهرة يُشير ابن عبد الظّاهر إلى أنّ الفاطميّين “لم يكونوا يعرفون المدارس”؛ وعلى ذلك يستنتج المؤرّخون أنّه لم يكن من الطّبيعيّ أن يتّخذ الفاطميّون مؤسّسات تُشبه المدارس في تلك الحقبة. أمّا أوّل حلقة دراسيّة فعُقدت في جامع القاهرة (الأزهر لاحقًا) عام 365 هـ. (975 م.)، وأجراها القاضي عليّ بن النّعمان (وُلد 328 هـ.)؛ تلَتْها مجالسُ للعلماء والشّعراء والفقهاء والمتكلّمين أجراها يعقوب بن كِلِّس (318-380 هـ./ 930-991 م.)، وزير الخليفة العزيز بالله، في داره؛ ثمّ شهد عام 378 هـ. (988 م.) محاولة ترتيب أوّل درس منظَّم في جامع القاهرة، “وهي أوّل مرّة يُقام فيها درسٌ في مصر بمعلوم جارٍ من السّلطان” كما وصَفها المقريزيّ في الخِطَط. بناءً على ما تقدّم كان الرُّبع الأخير من القرن الرّابع الهجريّ تاريخًا فاصلًا في الحياة العلميّة المرتبطة بقاهرة المُعِزّ الّتي كانت، في ذلك الزّمان، مركز الدّعوة الإسماعيليّة في العالم الإسلاميّ؛ إذ في عام 395 هـ. (1004 م.) أنشأ الخليفة الفاطميّ السّادس المنصور بن العزيز بالله الملقَّب بالحاكم بأمر الله (985/6-1021 الغيبة) “دار الحكمة” في القاهرة، وهو لم يزل في العشرين من عمره، وكانت هذه الجامعة الفاطميّة الأولى الّتي تحاكي جامعات عصرنا هذا، حتّى قيل إنّها من عجائب الدّنيا ولم يكن لها نظير في الأمصار الإسلاميّة،[1] وهي الدّار المعروفة بمختار الصّقلبيّ.[2] والأرجح أنّ الخليفة الحاكم اختار “دار الحكمة” اسمًا لها ليكون رمزًا فلسفيًّا للدّعوة إلى المذهب الجديد الّتي سُميَّت مجالسُها، آنذاك، “مجالسُ الحكمة”؛ وكانت هذه المجالس واحدًا من أهمّ المظاهر التّعليميّة للإسماعيليّين في العصر الفاطميّ، وقد عُقِدت داخل قصر الإمام، في المكان المُخصَّص لها، وكان يحضُرها المؤمنون المُستجيبون دون غيرهم.

أُقيمت دار الحكمة شمال القصر الصّغير الغربيّ الّذي عُرف، أيضًا، بِاسم “قصر البحر” وهو الّذي بناه العزيز بالله نزار بن المعزّ؛ فكان الوصول إليها عبر “باب التّبّانين” وهو واحد من أبواب القصر العديدة. قُسّمت هذه الدّار إلى قاعات ومجالس عديدة، منها ما كان لدراسة القرآن، والعلوم الدّينيّة، والطّبّ، والفلك، والنّحو، وعلوم اللّغة. ثمّ عنى الخليفة الحاكم إلى تأثيث الدّار وزخرفتها؛ وفي ذلك يقول المقريزيّ: “إنّ دار الحكمة في القاهرة لم تفتح أبوابها للجماهير إلّا بعد أن فُرشت وزُيّنت وزُخرفت وعُلّقت على جميع أبوابها وممّراتها السّتور، وعُيّن لها القُوّام والخدَم”. وعن افتتاح هذه الدّار يروي لنا المسُبَحِّي، الأديب والشّاعر الّذي عاش في مصر بين عامَي 366 و-420 هجريّ (977-1029 م.) فعاصر أحداثها وكان شاهد عيان:

“وفي يوم السّبت هذا، يعني العاشر من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة فُتحت الدّار المُلقّبة بدار الحِكمة بالقاهرة، وجلس فيها الفقهاء، وحُملت إليها الكُتب من خزائن القصور المعمورة، ودخل النّاس إليها، ونسخ كلّ من التمس نسْخ شيءٍ ممّا فيها ما التَمَسه، وكذلك من رأى قراءة شيء ممّا فيها، وجلس فيها القرّاء والمُنجّمون وأصحاب النّحو واللّغة والأطبّاء…”.

هكذا أمست دار الحكمة مؤسّسةً جامعيّة علميّة عامّة، مستقلّة عن “الأزهر”، ومتميّزة دورًا وآليّةً واتّجاهات فكريّة عنه. ثمّ إنّها كانت نظيرًا لبيت الحكمة الّذي أسّسه هارون الرّشيد، في بغداد عاصمة الخلافة العبّاسيّة، والّذي وصل إلى ذروة ازدهاره في عهد ولده الخليفة المأمون.

في السّنوات الأولى لإنشائها جعل الخليفة الحاكم القائمين على دار الحكمة جماعةً من الشّيوخ من غير المذهب الشّيعيّ، لعلّه قصد بذلك التّقرّب من أهل السُّنّة وكسب حماسهم. وقد عيَّن لها أقطاب الأساتذة في مختلف العلوم والفنون، وبرز بين هؤلاء ابن يونس المنجّم، أبو حسن بن الهيثم وعليّ بن رضوان وغيرهم. وكان “داعي الدّعاة” هو المُشرف على سَيْر الدّراسة في هذه الدّار، ويرتّب لها الدّعاة والأساتذة تبعًا لما يرسم من الخطط والغايات. أمّا مناهج التّعليم فيها فقد اختلفت عن تلك الّتي اتُّبعت في المساجد الفاطميّة؛ إذ غلبت على هذه الأخيرة الصّبغة الدّينيّة، في حين غلبت على مناهج دار الحكمة الصّبغة العلميّة.

يصف لنا المسبّحيّ ما اجتمع في مكتبة دار الحكمة من نفائس الكتب فيقول: “وحُصِّل في هذه الدّار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمرّ الله من الكُتب الّتي أمر بحَمْلها إليها من سائر العلوم والآداب والخطوط المنسوبة ما لم يُرَ مثله مجتمِعًا لأحدٍ قطّ من الملوك”. فقد وضع الخليفة الحاكم فيها آلاف الكتب المنوّعة والنّادرة، العزيزة المنال، الّتي تمتاز بجودة الخطّ وجمال التّجليد ودقّة الزّخارف، فتنوّعت في شتّى العلوم والمعارف، وجمعت كُتبًا في مختلف المجالات والعلوم الدّينيّة والدّنيويّة كالفقه والنّحو واللّغة والحديث والتّاريخ والسِّيَر والنّجوم والرّوحانيّات والكيمياء والفلسفة والطّبّ وغيرها، وأُبيح ذلك كلّه للنّاس جميعًا على طبقاتهم، فمنهم من كان يحضر للقراءة، ومنهم من يحضر للنّسْخ، ومنهم من يحضر للتّعلّم، فكان هؤلاء يجدون ما يحتاجون إليه من الحِبْر والأقلام والورق والمحابر. كما وضع الخليفة الحاكم فيها المصاحف المُذهّبة بالخطوط المنسوبة، كخطّ ابن مقلة، وابن البوّاب وغيرهما من الخطّاطين. ويقول المقريزيّ إنّ عدد خزائن هذه الدّار بلغ أربعين خزانةً، تتّسع الواحدة منها لنحو ثمانية عشر ألف كتاب، وكانت الرّفوف مفتوحة والكتب في متناول الجميع، ويستطيع الرّاغب أن يحصل على الكتاب الّذي يريده بنفسه ما تيسّر له ذلك، فإذا ضلّ الطّريق استعان بأحد المُناوِلين. وقد حرص الفاطميّون حرصًا شديدًا على جمْع ما وُجد من نُسخ لأفضل هذه المراجع، حتّى إنّهم كانوا يدفعون مبالغ طائلة لمجرّد الحصول على نسخة لم تكن ضمن مجموعاتهم فيأتون بها من بعيد. وزاد عدد محتويات دار الحكمة عن مليون و-600 ألف كتاب ومخطوط، كما يرجّح غالبيّة المؤرّخون، إضافةً إلى احتوائها على مصوَّرات جغرافيّة، وآلات فلكيّة، وخطوط نادرة، وأقلام منسوبة، وتُحف فنّيّة نادرة.

وفي دار الحكمة الفاطميّة أُقيمت المجالس وجرت المناظرات بين العلماء والفقهاء، فمنها الدّينيّة والعلميّة والفلسفيّة والفقهيّة والأدبيّة واللّغويّة، وكان الخليفة الحاكم يُشرف عليها بنفسه ويخلع على العلماء والفقهاء والطّلّاب الخلع ويصلهم بالصّلات.

كما أجزل الحاكم بأمر الله النّفقة لدار الحكمة ووقف عليها الأوقاف عام 400 هـ. (1010 م.). وقد أورد ابن عبد الظّاهر والمقريزيّ، نقلًا عن المُسبّحيّ، نصَّ الوقفيّة الّتي عيَّن فيها الحاكم ميزانيّة الدّار وقد حُدِّدت بـِ-257 دينارًا ذهبيًّا في السّنة، جاء تفصيلها كما يلي: 12 دينارًا لثمن الماء، 15 دينارًا للفراش، 12 دينارًا للورق والحِبر والأقلام، دينار واحد لمرمّة السّتارة، 12 دينارًا لمن يرُمَّ ما ينقطع من الكتب وما عساه أن يسقط من ورقها، خمسة دنانير لثمن لبود الفرش في الشّتاء، أربعة دنانير لثمن البُسط في الشّتاء، وما بقي يُصرف على بقيّة ما يُحتاج إليه.   

دار الحكمة، بمن فيها من علماء وبما فيها من علوم جامعة، ظلّت مفتوحة أمام طلّاب المعرفة من شتّى بقاع الأرض حتّى بداية القرن الهجريّ السّادس، حين أمر الوزير الأفضل بن بدر الجماليّ بإغلاقها، بُعَيْد سماعه خبَر جماعة من النّاس يتّخذون دار الحكمة مكانًا لنشر أفكار مذاهبهم الهدّامة والمتطرّفة. وفي عهد الخليفة الآمر بن المستعلي عادت الدّار وفتحت أبوابها وبقيت تؤدّي عملها حتّى جاء القائد صلاح الدّين الأيّوبيّ وهدمها وأنشأ مكانها مدرسة للشّافعيّة، كما يخبرنا ابن خلدون في العِبَر

بحلول سنة 460 هـ. (461 هـ.؟) أصبحت هذه الدّار عرضة للخراب والسّلب والدّمار إثر خلاف وقع بين الجنود السّودانيّين والأتراك وأدّى إلى حالة فوضى، فأصبحت محتوياتها الّتي زادت عن مليون و-600 ألف كتاب ومخطوط، وانتعل الجنود الأتراك أغلفة هذه الكتب لكي يقضوا عليها. وكانت الطّامة الكبرى حين أمر القائد صلاح الدّين الأيّوبيّ بإبطال هذه الدّار وبيع الكتب في المزاد العلنيّ.

_______________________________________________

[1] انظر الخِطط للمقريزيّ.

[2] عن المُسبّحيّ.

* * *

للاستزادة والتّوسُّع:

  1. الجبوري، يحيى وهيب. المكتبات في الحضارة الإسلاميّة. بيروت: دار الغرب الإسلاميّ، 1998.
  2. حسن، إبراهيم حسن. تاريخ الدّولة الفاطميّة في المغرب ومصر وسورية وبلاد العرب. ط. 2. القاهرة: مكتبة النّهضة المصريّة، 1958.
  3. ابن خلدون. العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر. د. م.: مطبعة النّهضة، 1936.
  4. أبو صالح، عبّاس؛ مكارم، سامي نسيب. تاريخ الموحّدين الدّروز السّياسيّ في المشرق العربيّ. بيروت: المجلس الدّرزيّ للبحوث والإنماء، 1981.
  5. ابن عبد الظّاهر. الرّوضة البهيّة الزّاهرة في خطط المُعِزِّيّة القاهرة. تحقيق: أيمن فؤاد سيّد. القاهرة: الدّار العربيّة للكتاب، 1996.
  6. أبو عزّ الدّين، نجلاء. الدّروز في التّاريخ. بيروت: دار العلم للملايين، 1985.
  7. عطا الله، خضر أحمد. الحياة الفكريّة في مصر في العصر الفاطميّ. القاهرة: دار الفكر العربيّ، 1989.
  8. عنان، محمّد عبد الله. الحاكم بأمر الله وأسرار الدّعوة الفاطميّة. ط. 3. القاهرة: مكتبة الخانجي، 1983.
  9. غالب، مصطفى. تاريخ الدّعوة الإسماعيليّة. بيروت: د. ن، 1979.
  10. المُسبَّحيّ، عزّ الملك. نصوص ضائعة من أخبار مصر. جمع وتحقيق: أيمن فؤاد سيّد. القاهرة : المعهد العلميّ الفرنسيّ للآثار الشّرقيّة، 1978-1984.
  11. المقريزي، تقيّ الدّين. المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تحقيق: د. محمّد زينهم ومديحة الشّرقاوي. القاهرة: مكتبة مدبولي، ج. 1، 1998.
  12. هالم، هاينز. الفاطميّون وتقاليدهم في التّعليم. تعريب: سيف الدّين القيصر. دمشق: دار المدى، 1999.

מבט על

הדרוזים בישראל

ההתיישבות הדרוזית בישראל נחשבת לשלישית בגודלה, מבחינת מספר התושבים, בעולם כולו. הדרוזים בישראל (בני דת הייחוד) מהווים עדה דתית מגובשת, המונה כ- 147 אלף בני אדם, שפתם הינה ערבית ותרבותם ערבית-ייחודית (מונותאיסטית). הדת הדרוזית מוכרת באופן רשמי, על ידי מדינת ישראל, מאז שנת 1957 כישות אחת בעלת בתי משפט והנהגה רוחנית משלה. הדרוזים בישראל חיים כיום בתוך עשרים ושניים כפרים הנפרשים בגליל, בכרמל וברמת הגולן. שני היישובים הדרוזים הגדולים ביותר מבחינת מספר תושבים הם ירכא (16.9 אלף תושבים) ודלית אל-כרמל (17.1 אלף תושבים).

0 K

דרוזים בישראל

0 +

תושבים בדאלית אלכרמל, היישוב הכי גדול בישראל

0

סטודנטים דרוזים בשנת הלימודים 2019/2020 במוסדות להשכלה גבוהה